نُشِر هذا المقال لـ جورجيو أقامبين في الأصل في صحيفة لاريببليكا الإيطالية في آذار/مارس 2013. وهذه الترجمة العربية لكونه يلامس صلب اللحظة الأوروبية الراهنة.
في عام 1945، كتب ألكسندر كوجيف، الفيلسوف الذي كان أيضًا موظفًا حكوميًا فرنسيًا رفيع المستوى، مقالًا سمّاه "الإمبراطورية اللاتينية: مخططٌ لمذهب السياسة الفرنسيّة". في الواقع هذا المقال، الذي كان "مذكرةً لرئيس الحكومة المؤقَّتة، الجنرال شارل ديغول"، ذو صلة مباشرة بالأحداث الجارية، بحيث لا تزال له أهميّة كبيرة اليوم.
تقدم ألمانيا الاقتصادي خفض من مكانة فرنسا بين الدول الغربية
طارحًا بصيرة مُدهشة، أكَّد كوجيف أن ألمانيا ستُصبح قريبًا القوّة الاقتصاديّة الرئيسة في أوروبا، ما من شأنه خفض فرنسا إلى قوّة ثانويّة في أوروبا الغربية. كما تكهَّن بوضوح، بنهاية الدولة القوميّة، التي حدَّدت، حتى ذلك الحين، التاريخ الأوروبي. ومثلما أن الدولة الحديثة قد ظهرت مع انهيار التشكيلات السياسية الإقطاعية، وبزوغ الدول القومية، فإن الدولة القومية ستُخلي الطريق، حتمًا، للتشكيلات السياسية، التي سماها "إمبراطوريّات"، التي من شأنها أن تتجاوز الحدود الوطنيّة.
اقرأ/ أيضًا: مصر.. وقائع عبثية لنهايات كارثية
الحاجة المُلِحَّة للتركيز على الروابط الثقافيّة
نافح كوجيف عن أن هذه الإمبراطوريّات لا يمكن أن تستند على وحدات مُجرَّدة، غير مُبالية بالروابط الأصيلة للثقافة وأسلوب الحياة والعلاقات الدينيّة. يجب على الإمبراطوريّات -مثل "الإمبراطورية الأنجلو- ساكسونية" (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة)، والإمبراطوريّة السوفيتيّة التي استطاع أن يراها في ذلك الوقت - أن تكون "وحدات سياسيّة عابرة للحدود، لكنها مؤلفة من أمم ذات أصل واحد".
هذا هو السبب في اقتراح كوجيف أن على فرنسا لعب دور قيادي في "الإمبراطوريّة اللاتينيّة" التي، بموافقة الكنيسة الكاثُوليكيّة التي سترث تقاليدها، ستُوحِّد اقتصاديًا وسياسيًا الدول الثلاث الكُبرى، التي تستمد من اللاتينيّة لغاتها (فرنسا وإسبانيا وإيطاليا)، بينما في الوقت نفسه تنفتح على دول البحر المتوسط. وفقًا لكوجيف، فإن ألمانيا البروتستانتيّة ستُصبح قريبًا أغنى وأقوى دولة أوروبيّة (ما لم تكن قد صارت كذلك فعلًا)، وبلا شك ستتأثر بالميول خارج أوروبا، وتتجه نحو الإمبراطوريّة الأنجلوساكسونيّة- على نحوٍ ما؛ وفي هذا الترتيب، ستبقى فرنسا والدول اللاتينيّة جسمًا غريبًا، تم اختزاله على نحو جلي في دور هامشي للدول التابِعة.
اقرأ/ أيضًا: استفتاء بريطانيا وجزر مصر.. معارك على كوكب واحد!
اليوم، في اللحظة التي تشكَّل فيها الاتحاد الأوروبي عبر تجاهل الروابط الثقافيّة الملموسة، التي تقوم بين الأمم، قد يكون من المفيد -والعاجل- إحياء مُقترح كوجيف. فقد اتضح أن ما توقَّعه كان صحيحًا. إنّ أوروبا، التي تسعى جاهدة لأن تُوجَد على أسس اقتصاديّة بحتة، متخلّية عن كل العلاقات الحقيقيّة بين أنماط الحياة والثقافة والدين، أظهرت مرارًا وتكرارًا نقاط ضعفها، لا سيما على الصعيد الاقتصادي.
تشكَّل الاتحاد الأوروبي عبر تجاهل الروابط الثقافيّة الملموسة، التي تقوم بين الأمم
وحدة ما يُسمَّى بالاتحاد الأوروبي، هي بداية صدع، وبإمكان المرء أن يرى إلى أي شيء تم اختزاله: العبء الثقيل الواقع على الأغلبيّة الفقيرة لمصالح الأقليّة الغنيّة. وفي معظم الوقت، تتزامن هذه المصالح مع مصالح أمّة ما، التي لا يوجد في التاريخ الحديث ما ينبغي أن يشجعنا على أن نراها مثالًا يُحتذى به. ليس فحسب أن لا معنى للطلب من يوناني أو إيطالي العيش مثل ألماني، ولكن حتى لو كان هذا ممكنًا، فمن شأن هذا أن يؤدي إلى تدمير التراث الثقافي الموجود، باعتباره أسلوب حياة. كُلُّ وحدة سياسية تُفضِّل أن تتجاهل أنماط الحياة، محكوم عليها، ليس فقط بعدم الاستمرارية، ولكن، كما أظهرت أوروبا ببلاغة، لا يمكنها حتى إثبات نفسها على هذا النحو.
وإن كنا لا نريد لأوروبا أن تتفكك بصورة حتميّة، كما يبدو أن دلائل كثيرة تشير إلى ذلك، فسيكون من المناسب أن نسأل أنفسنا، من دون تأخير، كيف يُمكن للدستور الأوروبي (الذي هو ليس دستورًا بموجب القانون العام، وإنما اتفاق بين الدول؛ حيث إنّه إما لم يتم تقديمه للتصويت الشعبي أو -كما هو الحال في فرنسا- رُفِض رفضًا قاطعًا [من قبل 54.67% من الناخبين الفرنسيين]) أن يُعاد تشكيله من جديد.
يمكننا، بالتالي، محاولة تحويل الحقيقة الواقعيّة السياسيّة إلى شيء شبيه بما سماه كوجيف "إمبراطورية لاتينيّة".
اقرأ/ي أيضًا: