"إن هناك الملايين ممن يستحقون العون، ولا يجسرون على أن يمدوا أيديهم للسؤال، أولئك الذين فقدوا كل شيء، إلا ماء وجوههم، والذين أضاعوا كل ما يملكون إلا كرامتهم.."، يوسف السباعي.
في كل مرة يلقي الرئيس المصري خطابه، يكون حريصًا على أن يؤكد الفقر الذي يضرب أطنابه في أركان الدولة، وأنها بحاجة إلى دعم كل مصري، فما بين استجداء لعطف الدول العربية من ناحية والمواطنين من ناحية أخرى، لم يكن يجد لصوته صدى عادة، لكنه لم يمل فأخذ يعيد نفس الأسطوانة حول حاجة البلد إلى كل مليم من أبنائها، وكان لابد لتعب الرئيس ألا يذهب سدى وأن يكلل فى نهاية المطاف بالنجاح، حتى ولو على كان المقدار بسيطًا، المهم أنه وجد أخيرًا من يسمع منه، ويأخذ كلامه على محمل الجد والاهتمام، حتى ولو كانت امرأة بلغت من العمر أرذله، هي بالطبع أفضل عنده من أولئك الذين يأخذون خطاباته مادة خام للسخرية.
لم يكن الرئيس وحده البطل بل شاركته دور البطولة الحاجة زينب و"حلقها"، فقرر هذا الثلاثي أن يصنعوا كوميديا ساخرة، على غرار فوازير رمضان
فوجئ الرئيس كما فوجئنا نحن أيضًا، بسيدة تسعينية تطرق عليه الباب، بعد أن استقلت سيارة وطلبت من سائقها أن يقلها إلى بيت الرئيس، ومن لطيف القدر أن يكون هذا السائق هو الوحيد في مصر الذى يعلم عنوان الرئيس والذي لم يُفصح عنه قبل ذلك لدواعي أمنية، لكن يبدو أن هذا خارج الموضوع. لنعد إلى موضوعنا، فوجئ الرئيس بالسيدة تدخل عليه حاملة معها، قرطها الذهب، الذي دفعت فيه "تحويشة عمرها"، وفي رواية أخرى "أنها ورثته عن جدتها"، لكن أصح الأقوال كما جاء على لسان الحاجة زينب، والتي كادت أن تغطي شهرتها في الأيام الأخيرة على الرئيس نفسه، وهو أنه من" تحويشة العمر".
اقرأ/ي أيضًا: تكلفة بقاء نظام السيسي
والرئيس كان كريمًا معها كعادته، دائماً أطال الله عمره ، لكن يبدو أن القدر لا يزال يداعب بلطفه كلاً من الرئيس والحاجة زينب، فإذ بهم يفاجؤون في نفس اللحظة التي لم تكن مُعد لها مسبقًا، أن جميع القنوات المصرية تغطي الحدث المفاجئ، لكن هذا خارج الموضوع أيضًا. لنعد مرة أخرى إلى موضوعنا. وبعد أن فاجأته السيدة وبصحبتها جميع قنوات التليفزيون و"حلقها" الذي تبرعت به لصندوق "تحيا مصر"، كان لا بد أن يقوم الرئيس بواجب الضيافة بما يليق بكونه "حاتم الطائي زمانه"، فجلسا سويًا في صالون الرئيس، وتبادلا عبارات ما بين مدح الرئيس لنبل وكرم الحاجة زينب، وبين دعواتها بطول العمر لسيادته.
وكان لتلك الدعوات التي ألقتها الحاجة زينب للرئيس مفعولها السحري، فوعدها الرئيس أن يدفع من جيبه ثمن "الحلق" ويتبرع به لصندوق "تحيا مصر"، على أن يوضع هذا الحلق في متحف القصر، ولم يتوقف عطاء سيادته عند هذا الحد، بل وعدها بأن تحج على نفقته الخاصة، وبعدها بساعات قاموا بعمل إعلان عن "خراط البنات"، الذي خرط "حلق الحاجة زينب"، لكن يبدو أن كل هذا خارج الموضوع أيضًا.
نرجع مرة أخرى إلى موضوعنا، سيبدو جميلاً، في نظر الرئيس، أن خطاباته أكدت مفعولها أخيرًا، سيعتبر هذا فوزًا ثمينًا لرجل حظه من الحياة بذلة عسكرية ببيادة كان كثيرًا ما ينسى أن يرتديها على رأسه، أما في نظر مؤيديه فقد اعتبروا الأمر عاديًا بالنسبة لسيادته، وواصلوا التسبيح بحمده مضاعفة للأجر في هذا الشهر الكريم، أما بالنسبة لصبيانه الذين يملؤون شاشات الدكاكين الإعلامية فإن الأمر بالنسبة لهم كان مادة خامًا للعزف على ربابة مدحه وتعظيمه أكثر، خصوصًا بعد أن كسدت هذه المادة في سوق المداحين.
لكن بالنسبة لأصحاب العقول المفكرة والقلوب النابضة، فقد صعب عليهم تصديق كنه الأمر، فليس هو الشيء الذي به يعودون إلى حب هذا البلد الذي لفظهم، وليس هو الشيء الذي سيقنعهم بقيمة الرئيس، فالأمر لا يعدو أن يكون أكثر من مزحة، عوّدنا النظام من حين إلى آخر على النكات سواء كانت بتدبير منه أم لا، المهم أنه في كل الحالات يقدم لنا من وقت لآخر ما يثبت به سفهه وضحالة فكره.
هذه المرة لم يكن الرئيس وحده البطل بل شاركته دور البطولة الحاجة زينب و"حلقها"، فقرر هذا الثلاثي أن يصنعوا كوميديا ساخرة، على غرار فوازير رمضان لكنهم كانوا أرأف حالاً بوقتنا فاختصروها من ثلاثين حلقة إلى حلقة لا تتعدى خمس دقائق، ومعها ارتسمت البسمات على الوجوه، وانطلقت الضحكات من أفواه أهل "فيسبوك"، وصار الرئيس وضيفته مادة خامًا للضحك على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن يبدو أنني لا أزال أقول كلامًا خارج الموضوع.
على الجانب الآخر من قرط الحاجة زينب، الذي اهتم به الرئيس، هناك آلاف الأقراط التي لم يعرها اهتمامًا
اقرأ/ي أيضًا: عنتريات فرعون صغير
نعود مرة أخرى إلى موضوعنا، على الجانب الآخر من قرط الحاجة زينب، الذي اهتم به الرئيس، هناك آلاف الأقراط التي لم يعرها اهتمامًا، والسبب في ذلك أنها أقراط، كانت ولا تزال وستظل غير مقتنعة بشرعيته. الأمر ليس بهذه البساطة، الرئيس لم يكتف بإهمال باقي الأقراط فقط، بل كان سببًا في أن يخفت لمعانها إلى غير رجعة لأن صاحبة "الحلق" انقلبت حياتها رأسًا على عقب، فلم يعد "الحلق" ولا أي شيء من مبهجات الحياة يعنيها في شيء. أراد الرئيس أن تدفع ضريبة إصرارها ألا تفرط في قرطها لسيادته، هذه الأقراط هي التي تجلس الآن على مائدة الإفطار وحيدة تقلب نظرها في أصناف الطعام التي اعتادت أن تطهوها للقابعين هناك في عتمة السجون، أو الذين طواهم التراب في أحشائه.
أصحاب هذه الأقراط، دفع بهم فهمهم ورغبتهم في العيش في وطن يقدس آدميتهم إلى الهلاك، فلم يعرهم الرئيس اهتمامًا، قذف بهم إلى سجونه المظلمة خلف القضبان التي لا يتسرب منها شعاع الشمس إلا فيما ندر، وفي تلك الأوقات النادرة التي يعرف الشعاع فيها طريقه إلى الكهوف المعتمة، ينعكس على الأقراط فتبرق في سماء أضحت غائمة ومخيفة ببريق "حلق" الحاجة زينب ومن هم على شاكلتها.
وهناك نوع آخر من الأقراط، وهي التي دفعت ضريبة أشد، فلم يكتف الرئيس بإهمالها فقط، بل أراد أن يكتم أنفاسها إلى ما لا نهاية، فأعطى لنفسه الحق في أن يستأثر بـ"الحلق" لنفسه دون إذن أصحابه، لكن يبدو أن مصر في تلك الساعة كانت مرهونة في هذا "الحلق" وليتها انتفعت به في النهاية. هناك آلاف الأقراط التي لا يزال الرئيس يتعقبها، مهددًا إياها مرة ومستجديًا عطفها مرة أخرى ومتلاعبًا بحياتها وحياة أصحابها مرات ومرات، وأغلب الظن أن هذه الأقراط عنيدة وصعبة المراس.
اقرأ/ي أيضًا: