"الخوفُ لا يمنعُ من الموت ولكنه يمنعُ من الحياة، والضعيف هو الغبي الذي لا يعرفُ سرَّ قوته"، نجيب محفوظ، أولاد حارتنا.
عن الدولة العليّة التي صارت تخافُ على نفسها من نفسها، عن الرعب الذي بدأ يعرف طريقه إلى قلوب أفراد حكومتها من الأحداث المتلاحقة، والضربات المتتابعة، فما تكادُ تخرجُ من مأزق حتى تقع فى آخر، الأمر الذي أربكهم، أصابهم بحالة من الرعب الخفي الرابض في أعماق قلوبهم، هم يحاولون إخفاءه.
عندما خرج الأطباء للتظاهر في مصر مطالبين بحقوقهم أزالوا الخوف عن قلوبهم وأزالوه أيضًا عن قلب كل فرد مسلوب الحق والإرادة
لكن هيهات، هاهي الأحداث تكشف لنا الوجه الحقيقي لهم، وجه مليء بالاضطراب والقلق من عقل ناضج، من فمٍ ينطق بالكلمات التي لطالما خافوا يومًا منها وهي: "عاوزين حقنا"، ما أشد وقع هذه الكلمات حين تخرجُ من قلوب أنهكتها كثرة الظلم، فصارت الكلمات تجري في سيلٍ من الحماس، وتدفعها الحناجر الملتهبة، ثم تخرجُ من الأفواه، فتدوي في جنبات الكون، لتتردد أصداؤها فى مكاتب المسؤولين، فتقض مضاجعهم.
الأمر بدأ عن طريق مشاجرة بين أمين شرطة وطبيب، كانت الحكومة تعتقد أن الأمر سيكون مجرد مشاجرة عادية، لم تكن تظن أن هذه الحادثة ستكون بمثابة الشرارة التي أشعلتها بنفسها ضد نفسها، فأثارت هذه الحادثة كوامن الغضب والغيظ الراكدة داخل الأطباء تجاه الحكومة، ووجدوها فرصة للتعبير عن حقوقهم المهدورة تحت أرجل مسؤولي الدولة.
ما الذي دفع الدولة إلى أن تدخل هذه المعركة؟، ما الذي يريدونه من أطباء رأوا زميلهم ومن دونه يتطاول عليه ويتم النيل من كرامته؟. في عرفهم هم، عندما يضرب أمين الشرطة الطبيب على خده الأيمن، فلابد أن يقدم للشرطي خده الأيسر، ثم يقبل يده شاكرًا أن منَّ عليه الشرطي بهذه المنة العظيمة التي لا تتاح إلا لعبد مخلص من عباد الله.
من هنا بدأت الحرب المستعرة بين الدولة والأطباء، ومن جانبها قامت "الدكاكين الإعلامية" بإعلان حملتها على الأطباء، يبعثون في المشاهدين والمتابعين للإعلام المصري كوامن الغضب والحقد ضد "صاحب البالطو الأبيض"، أو كما يطلقون عليهم "جزارين الكشوفات"، حتى ينأوا بالمشاهد عن حقيقة الحرب بين الدولة والأطباء، عن طريق غشاوة من الأكاذيب أحكموها جيدًا على أعينهم، حتى لا ينفذ إليها شيء من نور الحقيقة، وهي أن حكومتهم صارت لا تستطيع المقاومة أمام إرادة شعب سيطر عليه اليأس لسنوات طويلة، وكبلّه القانون الذي لا يحمي إلا من وضعه فقط.
ما فعله الأطباء كان رد فعل طبيعي لظلم كامن في أعماق قلوبهم، ظلم لم تكن بدايته حادثة المطرية، بل هو ظلم بدأ مع أولى خطوات الأطباء في دراسة سلك الطب، منذ أن كان طالبًا في كليته لمدة سبع سنوات، فهي بالنسبة له سنوات تضيع من عمره هباء، وربما لو تقلصت إلى أقل من ذلك لكان أجدى له وأنفع، وبعد التخرج لا تكف الدولة عن ظلمها للأطباء، فهي تكلفهم بساعات عمل طويلة مرهقة وفي النهاية لا يكون الأجر مرادفًا لحجم هذا التعب.
لذلك كانت هذه الحادثة المسمار الذي وضعته الحكومة بنفسها في نعشها، فخرج الأطباء أمام دار الحكمة يطالبون بحقوقهم المنهوبة والمسلوبة، خرجوا وقد أزاحوا الخوف عن قلوبهم، والحقيقة أنهم لم يزيلوا الخوف عن قلوبهم فقط، فقد أزاحوا الخوف عن قلب كل فرد مسلوب الحق والإرادة.
ازداد الأطباء قوة، والدولة ازدادت ضعفًا، وهذه هي قوتها تنحدر إلى منزلق خطير، وقد أصبحت كالفقير التعيس الذي لا يجد من يحسن إليه، وهذه هي الأعناق التي اتخذوها سلمًا يصعدون عليها إلى عروشهم، قد رفعت جباهها تطالب بحقها المسلوب. كما أن النار لا تطفأ بالنار، وشارب السم لا يُعالج بشرب السم، والشقاء لا يمحى بالشقاء، كذلك فحقوقكم أيها الأطباء لن تسترد إلا بتلك الحماسة والعزيمة التي أبهرتم بها الجميع، وفاجأتم بها حكومتنا الرخوة، فامضوا فيما قد بدأتم فيه، واعلموا أن تلك الحكومة قد تقهقرت أمام إرادتكم وانتبذت جانبًا بعيدًا قصيًا.
اقرأ/ي أيضًا: