لست في وارد الدفاع عن فيروز، ولكنني لا أجد ضررًا من أن يهاجمها أي أحد، أو يلعنها أي أحد أيضًا، أو يكرهها كثيرون، فلم يتوجها الجميع ربة مقدسة محفوفة بالقداسة والعصمة؟ كلنا، أقصد أبناء جيلي، أحبوا فيروز وأم كلثوم وفريد الأطرش صوتًا، وتألموا لأغاني عبد الحليم حافظ، وقرؤوا نزار قباني شفاهة وصوتًا، وحلموا بأمسية لمظفر النواب وهو يقف على المسرح يسكر ويلعن قبل أن يعرفوه عن قرب، وكان كاسيت لقصيدة "القدس عروس عروبتكم" يساوي كنزًا، وعمرًا من الخوف... هكذا أحببناهم وعرفناهم قبل عصر الإنترنت.
لن يستطيع أحد أخذ صوت فيروز إلى المحكمة
رحلة البحث عن أغنية مسائية لأم كلثوم تحظى بطقس مقدس، إضاءة من نوع خاص، خافتة ومكتئبة، وزاوية من زوايا البيت اعتادت أجساد صغيرة أن تخلد إليها باحثة عن متعة لا تتكرر.. الخامسة والنصف ستغني أم كلثوم "الحب كله"، وفي السادسة والنصف "دارت الأيام"... كل هذا كان يستحق أذنًا من عين وقلب.
عن قرب عرفنا أسماء كنا نخشاها كبعوض يرتعش أمام ضوء، كبرنا عندما اقتربنا من وجوههم وحياتهم، وفي تجلياتنا تمنينا أننا لم نغامر بهذا الاقتراب، أقل من بشر عاديين كانوا، وبعضهم لا يتورع عن إظهار فجاجته ووقاحته... مبدعين عن بعد كامرأة جميلة تكرهها عند أول كلمة تخرج من بين أسنانها، وكتب كانت موضوعة كعناوين مقدسة يجب أن تورث كتبها مارقون سكارى يبيعون أنفسهم بأقل من لتر عرق وأنثى عابرة.. ليتنا لم نقترب وننكسر.
صالحة للصباح، ولكل الأوقات، صوتها يمر على الحواري والبيادر وريما التي تحاول أن تنام... صالحة للحب والثورة وحتى الأقدام التي تهز الأرض بعناد الرجال، ولكنها أيضًا امرأة مثل كل النساء، وزوجة وأم صالحة أو سيئة... ربما يراها من هم قريبون بعين مختلفة، عين ترى في سحرها مجرد مهنة اختارتها لذاتها ولكي تعيش.
فيروز في دورها الغنائي الثاني مع ابنها زياد لم تكن هي تلك التي استولدها الأخوان رحباني من روح فتاة عادية، وبثت لها إذاعة دمشق أولى أغانيها. فمع زياد لم يحبها كثيرون، ورأوا فيها انقلابًا على أحلامهم، انقلابًا على فيروزهم الأولى التي كانت توقظ قهوتهم ورائحة عشقهم الأول.. امرأة كانت أمًا وطنًا.
لا تضعوا فيروز في مقام المقدس... دعوها تلك الأنثى وذاك الصوت الذي يفتتح نهاراتنا ببعض الأمل، ولا تدافعوا عنها فمكتبات الإذاعات العربية تفيض بصوتها السري، لن يأخذ أحد صوت فيروز إلى المحكمة، ولن يجرؤ أحد على رفع دعوى قضائية لمحاكمة "ميس الريم"، وسيبقى المساء يعترف بأنه لا ألق له بلا "كنا نتلاقى من عشية"، والحبيبة الأولى أبدًا لا يليق بها إلا "وحدن بيبقو".
فيروز أكبر من طوطم يغني...أكثر من أن نعلبها ونعلقها في صدور بيوتنا ربًا جديدًا في زمن صار الأرباب فيه أكثر من عبيدهم.. طوبى لموال صباحي يعتني بأرواحنا.
اقرأ/ي أيضًا: