17-نوفمبر-2015

العلم الفرنسي أمام لوبوتي كامبوديا

أول مجيئي إلى ألمانيا بمنحة من مؤسسة هاينريش بول الثقافية في بدء العام 2013، وجدتني في بيت الشاعر أنا والله والطبيعة وبعض الرفقةِ الطيبة، وتصورت المكان إمَّا هو الجنة أو قطعة منه، وهو ما جعلني أشهقَ عندما طلبت الصديقة الراوية روزا حسن ياسين حسين، التي سبقتني إلى المكان، أن أخرج ليلًا وأنظر في اتجاهٍ حددته. 

لم أجد ما يمجّدُ زوالَ جدار برلين إلا من أثرٍ صغير يدلل على أنه كانَ هنا جدار ويفصل بين روحين

علاقتي مع الطبيعة توزعّت على الغابة، ومن ثم إلى نهر قريب دلني عليه الشاعر الأب قاسم حداد، ومن ثم المقبرة المسيحية التي نمرّها ذهابًا وإيابًا في ذهابنا إلى التسوق والنهر والتلصص على الموتى. كنت أرى نساء قليلات يدللن كلابهن في فسحات قريبة من البيت، وكنت أرىَ كهولًا يعشبّون حدائقهم الصغيرة، وكنت أرى صبيات يشبهنّ الوردة في أيام العطلِ بألبسة خفيفة يشربن البيرة ويدخنَّ بشراهة، ولأننا لم نمتلكَ اللغة آنذاك، ما كنا لنشعر بجنسيةِ القرية/ الجنة، سوى أنَّ الغرفَ التي نشغلها كانت تخصُّ شاعرًا ألمانيًا عادى النازية وتحصّل جائزة نوبل وحظيَّ بدعم حكومي وشعبي، وبقيتْ كتابتهُ محلّ نقدٍ وبقيَّ السؤال معلقًا: أيهما السبب في شهرته قَصره أم موقفهُ؟

في حركتي الدائرية بقطرها الكبير، لم ألحظْ صورة للرئيس أو للمستشارة، كذلكَ لم أقرأ على الجدران "عاش القائد"، أو عاشت ذكرىَ "السابع من نيسان"، كذلكَ لم أجد ما يمجّدُ زوالَ جدار برلين إلا من أثرٍ صغير يدلل على أنه كانَ هنا جدار ويفصل بين روحين إحداهما "شيوعية" تنتصرُ للإنسان، والأخرى "رأسمالية" تمتصُّ دمَّ الإنسان، وإلى أنْ ثبتَ العكس واندغمَت الروحان بجسدٍ واحدٍ، لا يظهرُ الوهن عليهِ إلاَّ بصيحاتٍ متفرقة تطلقها "بيكيدا أو هوكيدا"، أو حروبٍ في السراي تبدو كما لو أنّها لا تخصّ مواطنًا مرتاحًا لما يطبخهُ ساستهُ. 

كذلكَ في تجوالي الدائم، الذي كانَ غالبًا ينفر منهُ أصدقائي ويتهربون منه بحجج واهية، ما رأيتُ عَلمَ البلاد مرفرفًا، والعلم الوحيد الذي داومت على المرور من تحت ساريته ولم أنتبه كانَ علم أمريكا، وحينَ استفسرت قال لي ربُّ عائلة تعرفناها هناك وهو بطل في أحدِ الرياضاتِ أنه وقبل سنوات حطّت مروحية في القرب ونبشَ ركابها الأرض وأخرجوا رفات جنودٍ أمريكيين شاركوا في الحرب الثانية، قالَ بطلُ الرياضةِ وربط وجود العلم الوحيد بتلك الحادثةِ. 

رجعتُ بذاكرتي أنَّ الأعلام واللافتات بالشعارات الرنانة كانت من نصيبنا نحن، نزينُ بها المدارس والمؤسسات ونحملها في المسيرات "الطوعية" لتمجيدِ الأب الخالد والحزب القائد "حيّدوا وإحنا البعثية حيّدوا.. حافظ أسد بعد الله بنعبدوا"، ولأنَّ حافظ غيّب الله عنا فلم نجد إلاَّ هو إلهًا وصرنا نحنُ عبيدًا ندينُ بالولاء و"إلى الأبد"، فخفَت علاقتنا بالعلم كرمز لصالح القائد الرمز، وكانَ من الوارد جدًا أن نرىَ علمًا مقلوبًا أو مهترئًا يعلو إحدى مدارس الطين وقد فقد أحدَ ألوانه كأن يكونَ الأحمر أو الأسود، أو يبقى شريط صغير منه يكون حجة على وجوده خلال زيارات أفرع الأمن وتدوين اتجاهات المعلمين السياسية، وحدثَ أن جاءني صديق من القرية التي أعلّم فيها وطلب مني بعد أن حارت به السبل أن أحلق شعره بعد أن طال كثيرًا، فلم أجد في مستودع المدرسة إلا علمًا للبعث لففت به رقبته لأمنع الشعرَ الناعم من التسلل إلى جسدهِ، لأفاجأ بأحدِ المغالين ومع أنه يصغرني بسنوات ويهاب جدالي فقد وجد نفسه بموقع القوة ليوجه لي النصحَ واللوم والتهديد وعلى مدار ساعة كنت أكتفي بهزِّ رأسي بتودد وتقدير كبيرين "للدرر" التي ألقاها على سمعي، لتبدأ بعد ذلك فوبيا السيارات العسكرية أو المدنية المتعارف عليها كسيارات أمنية والمقتربة من المدرسة لأسباب لم أكن ضمنها طبعًا.

إلصاق تهمة التفجير باللاجئين تعني تخليص الدول الأوروبية من موقفها الأخلاقي تجاه المنكوبين

كفنوني بالعلم الفرنسي.. ليست صرخة مني لأن الفرنسيين أنفسهم لا يمتلكون هذه العاطفة الجياشة تجاه علمهم الذي يحملونه أثناء مباريات كرة القدم، وفي التمثيل الدبلوماسي على أسطح السفارات والقنصليات، بل هو العنوان الذي سآتي عليه أخيرًا لأربطه بالمتن، ذلكَ أن السوريين تنادوا وتهادوا للاحتفاء بالفرنسيين ومشاطرتهم فاجعتهم من خلال علمهم فلم يكن أضعف الإيمان بقدر ما كانَ أضعفُ الصّح في التعبير عن موقفٍ إنساني أو طريقة مكشوفة في دفعِ التهمة، فوجود جواز سفر مُدّرع ضدَّ الحرق والماء والرصاص لايعني أن الهدفَ الواضح وتبنته داعش على أنه ثأر للسوريين والعراقيين، لا يخفي الهدفَ الذي يلعب عليه من هو مؤهل لذلك أو ساهم في تنشيطه وإخراجه إلى العلن دعمًا ودعايةً، وليس لسوري يمتلك الحد الأدنى من العقل وهو يرى كيف يقدر ويؤمَن عليه وهو مالم يره طيلة خمسين عامًا في بلده أو الذي كان يحسبه بلدًا قبلَ أن يتحول إلى مزرعة: القلة فيها الأسياد والأكثرية عبيد. 

تروقني الفكرة التي تذهبُ إلى أن التفجيرات، وفي الوقت الذي نزحَ فيه من نزح هاربًا من هجير الحرب والجوع واللاأمان، تعني بحالٍ واحدة استثمار مزاجِ الأوروبيين بين مؤيد لاستقبال اللاجئين وبين رافض لهم لإذكاء عنصرية كامنة، وبالتالي تخليص هذه الدول من موقفها الأخلاقي تجاه المنكوبين وطردهم أو جعلهم تحت مجهر الإهانة والتشكيك، وإلاَّ كانَ من الممكن -وهي ليست مني فالتفجير عمل لاإنساني ومدان- التفجير في إيران بحجة أنها تقتلُ السنة كما يأتي في خطاب "دولةِ الخرافة"، أو في روسيا "الشيوعية" التي تقتل السوريين جهارًا نهارًا وتمنع الحلَّ عن الدولِ الأخرى، كما تَدعي تلكَ الدول التي تبدو، ومن ضمنها أمريكا، في تواطؤ واضح على إطالة الأزمة، أي مزيد من القتل واللاجئين، الذين من تحت اسمهم سيقترف أصحاب المصالح جرائمهم ويلصقونها بمن لا حول ولا قوة لهم إلاّ تغيير صورهم الشخصية ووضع العلم الفرنسي بدلًا منها، بالمختصر: "وراك وراك".

اقرأ/ي أيضًا:

"داعش" ليس مشكلة إسلامية - إسلامية

مع ضحكة مارك.. لا مع دموع باريس!