ما زال الصوت عالقًا في أذني، يرتجف لكنه دافئ. واحد من سلسلة أصوات تختارها الذاكرة، وتقيم في القلب، من دون أن يكون أي معنى لذلك أيضًا. أحفظ صوت معلّق المباراة في نهائي كأس العالم عام 1990. ربما عندما بكى مارادونا، هل بكى مارادونا؟ لا أذكر جيدًا. لا أكترث، أصلًا أنا مع إيطاليا. كان المعلّق حزينًا وكان يتحدث بلغةٍ غير مألوفة إطلاقًا، عرفت لاحقًا أنها الإيطالية. كنت مع إيطاليا قبل أن أعرف اللغة حتى. يمكنكم القول، ولد. أحببت الإيطالية بعدما صرت أتحدث بها، لكن صوت المعلّق بقي يترك أثرًا سلبيًا.
لم أكن أعرف الفرنسية حين كنت طفلًا وأعتقد أن صوت إديت بياف يعود إلى حقبةٍ من حياتي لم أكن أعرف شيئًا فيها
كلما تذكرت أني كنت في السادسة، وأن صوت المعلّق يرتبط بإطلاق نار وقع في حيّنا خلال المباراة. وأن رجلًا مات. عادي، إطلاق نار. رجل مات. أسامح المعلّق من كل قلبي ولكن تلازم الصوتان في رأسي. والآن يستحيل فصل الواحد منهما عن الآخر. كأنه أطلق النار من فمه. أحيانًا أشعر بالذنب تجاه المعلّق ولكن لا يمكنني أن أفعل له شيئًا كتعويض عن هذه الذكرى الكريهة. عليه أن يتقبل الأمر بدوره، أشياء مثل هذه تحدث. أحفظ أيضًا صوت الطائرات الحربية الإسرائيلية التي قصفت معامل الكهرباء في بيروت منتصف السبعينيات. كنت كبيرًا حينها، أحفظ الرعب، ولا أحفظ الصوت بالضرورة. يخرج من صدري لا من رأسي. لكن ليست هذه الأصوات التي أتحدث عنها. أتحدث عن اديت بياف.
لم أكن أعرف الفرنسية حين كنت طفلًا، وأعتقد أن صوت إديت بياف يعود إلى حقبةٍ من حياتي لم أكن أعرف شيئًا فيها. مثل جميع الأطفال كنت طفلًا أكثر من اللزوم. أتحدث عن صوت مجرّد في رأسي. في الثالثة من أعمارنا لا نعرف اللغات ولا الأغنيات ولا نجيد التمييز بين الحواس. وإديت بياف بالنسبة لي كانت جارة يأتي صوتها من النافذة القريبة، أو من غرفة الجلوس الملاصقة، لا أذكر الآن بالضبط. لكن تلك الحشرجة التي يصدرها الراديو واضحة في رأسي تمامًا، ولن أستطيع تمييز الكلمات التي كانت تقولها بياف، مهما حاولت الآن. لقد كنت في الثالثة فقط. وعلى عكس الصوتين السابقين، يرافق صوت بياف، والحشرجة التي في الراديو، الذي كان على الأغلب معاديًا لنا في "بيروت الغربية"، مطر كثيف. كم يبدو هذا نوستالجيًا وغبيًا، لكنها طفولاتنا. ماذا أفعل إن ارتبطت طفولتي بإديت بياف، وانتظرت حتى المرحلة المتوسطة، لأتعرف إلى صاحبة الصوت.
تنكرت لإديت بياف في سنوات المراهقة. مش عالموضة. دي موديه. صديقي الشخصي هو كرت كوباين. ما يشبهني هو الروك. لم نصبح صديقين مجددًا إلا في مرحلة متأخرة، بعد الانتهاء من الإجازة الجامعية بقليل. أقلعت عن الهوس بالروك، وعن الاستجابة إلى واجهات المحال التجارية. في 2013 زرت باريس لأول مرة. ومثل الجميع انبهرت انبهارًا لا يخلو من السذاجة. انبهرت بمقابض الأبواب التي أرجح أن زمنًا عميقًا يسكن خلفها، وبالأشجار التي تحرس النواصي بالحفيف.
في المرات اللاحقة، تلاشى الانبهار تدريجيًا، مثلما يحدث الأمر في العلاقات بالضبط. تكون اللهفة إعجابًا، وتنمو ببطء فتصير شغفًا. أنا وباريس في مرحلة الشغف الآن. غالب الظن أنها المرحلة الأخيرة. سيبقى الأمر كذلك. كلما هممت بالصعود إلى مترو الخيالات، يسقط مطرُ في رأسي، وتغني إديت بياف، كما لو أنها تحاول أن تهدئ من روع الطفل، الخائف من قذيفة تائهة.
نامت إديت بياف باكرًا أمس، ربما في ذاكرتي أيضًا. في منزل العائلة القديم، أو في شوارع باريس التي تدخل إلى القلب، كصوتٍ بطيء، مع حشرجة. يعمل القلب بطريقةٍ غريبة. والآن، بعد كل شيء لا يمكنني التنكر لإديت بياف مجددًا، أو لباريس. نعم، أنتمي إلى بيروت. وأحب الجزائر. قتلوا أصدقائي في انفجارات مشابهة بالضاحية أيضًا. هولاند؟ لا يعنيني. لا أعرفه حين كنت طفلًا. باريس؟ مدينة العالم. لكي تكون كاتبًا يجب أن تحب باريس. سوريا جرح يتسع هي الأخرى. أكن كرهًا عظيمًا للبراميل طبعًا. صور العائدين على ألواح لكي تلتهمها الشمس من هناك، تفطر قلبي أيضًا. سأهاجر؟ قطعًا. لا تحبني بيروت رغم أني أحبّها. إديت بياف دي موديه، الحنين موضة قديمة عمومًا، لكن القلب لا يصدأ إلا إن كان حديديًا.
ما أعرفه بعد ثلاثين عامًا على حادثة إديت بياف، هو أن فرنسا قطعًا ليست غورو، كتاب التاريخ هو الأهبل. وليست بول أساراس، لكن ماري لوبان قد تقرأ كافكا، وتتحول إلى بول أساراس. لا أعلم. جان بول سارتر، ألبير كامو، غودار، سيمون دو بوفوار، فوكو، الآن رينيه، رينيه شار، شابرول، و"الكلوشار" الذي شاركني سيجارته الأخيرة، في بور دورليون، وأخبرني أني أشبه لاعبًا في باستيا، نسيت اسمه الآن. أنا مدينُ لكل هؤلاء بالكثير.
اقرأ/ي أيضًا:
لا مظلات في شارع دوبانتون