لطالما طالبت الأنظمة الدكتاتورية بالتغاضي عن مفاسدها لأجل التركيز على المعركة التي تخوضها نيابة عن الأمة، ولم تكن هناك قضية أكثر مناسبة لذلك من القضية الفلسطينية، لأسباب كثيرة أهمها أنه لم يفكر أحد أن يخوض معركة حقيقية من أجلها فعلًا.
لم ترغب الدكتاتوريات العربية والإسلامية يومًا في مقايضة محاربة إسرائيل بالحريات، بل كانت تعرض فقط عدم المصالحة العلنية مع إسرائيل مقابل ذلك
لا يختلف حزب الله في أي شيء عن ذلك، فالحزب الذي احتفظ بسلاحه بعد الحرب الأهلية اللبنانية ليقاوم الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، والذي نجح بشكل مثير للإعجاب في طرد جيش الاحتلال من الجنوب، لا يمكننا أن نقول أنه بعد طرده لإسرائيل، أصبح يحتل نفس موقعه البنيوي القديم، ونترك تكوينه الطائفي، كما لا يمكننا أن نتغافل أنه -ككل الأنظمة العربية- لم يدع يومًا، وفيما عدا الشعارات، أنه سيحارب إسرائيل لتحرير فلسطين، كانت مقاومته في حدود المسموح به دوليًا، أي في حدود الدفاع عن دولة وطنية ضد احتلال أجنبي، وعدم تخطي الحدود إلى ما يعتبره العالم وطن هذا العدو، أي فلسطين المحتلة، هذا شئ بديهي طبعا، لكن التأكيد على البداهات هو أحد المهام الكبرى في هذا الزمن.
وفي الحقيقة، لم ترغب الدكتاتوريات العربية والإسلامية في مقايضة محاربة إسرائيل بالحريات، فهي لم تكن يومًا مستعدة لشيء كهذا، بل كانت تعرض فقط عدم المصالحة العلنية مع إسرائيل مقابل أن يتنازل الناس عن كل حرياتهم. وإن كانت هناك أسئلة مهمة عن عدم جدوى التنازل عن الحريات وقت الحرب مع العدو، فالأسئلة أكثر وأقرب للبداهة عن معنى ذلك مع أنظمة وحركات وأحزاب لا تعرض إلا سلمًا ضمنيًا لا يعكر صفوه إلا التصريحات الخطابية، بين كل حين وآخر، عن تحرير فلسطين.
بشكل شخصي، أحد مرتكزات تفكيري في "محور الممانعة" هو اعتقادي الراسخ، أن "تحرير فلسطين" -هذا المصطلح الفخم والجميل- لم يكن يومًا على جدول أعمال أي أنظمة أو حركات عربية أو إسلامية -مهما بلغت راديكاليتها- وأن الحديث عن مبادلة الحريات بالشروع في التحرير، حديث لاغي، لانتفاء موضوعه، لأن أحدًا لم يعرض ذلك الخيار أبدًا.
وربما يكون ذو دلالة أن نعيد التفكير فيما استفادته "القضية الفلسطينية" فعلا من المتاجرة بها على الدوام من الجميع، ومن كونها "قضية العرب المركزية" -ربما لم يسير العرب باتجاه فلسطين إلا حشدًا من المصطلحات الفخمة- ففي رأيي، وفيما عدا اليسار اللبناني في بعض لحظات الحرب الأهلية اللبنانية، لأسباب معقدة ولأسباب نبيلة أيضا، لم يرفع أحد السلاح للدفاع عن الفلسطينين، وظلت الحروب العربية مع إسرائيل، هي حروب دول ضد دولة أخرى يحترمون حدودها ويطالبونها باحترام حدودهم، وليست حروبًا ضد احتلال أجنبي يرجون تقويضه.
ربما كانت هذه مقدمة ضرورية، لموضوع خلافي، وهو المعارك الخطابية التي دارت بعد اغتيال إسرائيل لسمير القنطار، بين من رأى في عملية الاغتيال دلالة زمنية يمكنه فيها أن يعيد خطاباته النارية حول حزب الله وإسرائيل والمقاومة والنصر، كأننا مازلنا في أواخر عام 2006، وبين من اعتبر الاغتيال خبرًا سعيدًا.
لماذا نختلف على سمير القنطار؟
لم يكن غريبًا بالتأكيد أن يخرج أنصار الأسد وحزب الله وإيران للاحتفاء بالشهيد وبطولاته، لكن كان المدهش فعلًا أن يدعو اندهاشهم، من عدم تعاطف القسم الأكبر من أعدائهم، مع اغتيال إسرائيل لسمير القنطار، الدهشة الممزوجة بتغابي تتساءل بدرامية مسرحية: "كيف يختلف الناس حول رجل قاوم إسرائيل وسجن طيلة حياته ثم قتل على يد العدو الصهيوني؟"
عند تحرير سمير القنطار، لم يختلف الناس حول الاحتفاء به كمقاوم تاريخي وكبطل محرر، اختلف الناس حوله حين أصبح هناك داعٍ للاختلاف
اعتقادي أن عامة الناس يحركها وعي حقيقي إلى درجة ما، بموقعها الخطابي ومصلحتها الشخصية، ولهذا فالسؤال المتذاكي بالأعلى، والذي يظن من يقوم بطرحه أنه يحاصر الناس في ركن ضيق، ليس بالضرورة بهذه الصعوبة المتخيلة. فببساطة، عندما تم تحرير سمير، لم يختلف الناس حول الاحتفاء به كمقاوم تاريخي وكبطل محرر، لأن موقعه الرمزي كما انحيازه القيمي لم يكونا موضعًا للخلاف، اختلف الناس حوله حين أصبح هناك داعٍ للاختلاف.
التعاطف الحماسي مع سمير القنطار، يعني إسباغ صيغة تضامن على التدخل العسكري لحزب الله في سوريا، كما يعني إغناء الرأس المال الرمزي للحزب -مقاومة إسرائيل- مرة أخرى، ليستخدم الحزب هذا الرأس المال الرمزي، في إضفاء قيمة بطولية على شيء هو على التضاد تمامًا مع المنبع القيمي رأس المال هذا، منبع مقاومة الظلم ومساعدة الضعفاء، أي استخدامه لإضفاء قيمة بطولية على قتل السوريين.
عند هذه المرحلة من النقاش، يقول أصدقاء، إنه من التجني أن نزيح كل ما فعله الرجل، الذي قاوم إسرائيل فعلًا، ودفع ثمن ذلك من حياته فعلًا، وخرج مرفوع الرأس متمسكًا بمبادئه، ويطلبون أن نقول أنه كان بطلًا إلى حد ما، أو في وقت ما، وأن نحيي بطولته القديمة، ونحزن على انجراره إلى موقعه الجديد.
لكن وككل المعارك حول الماضي، فالأمر يتعلق دومًا بالحاضر، وبكيفية استثمار ما تبقى من القوة المعنوية لهذا لماضي، الآن وهنا. وهكذا لا يمكن ببساطة التغاضي عن دعم حزب الله للأسد، كنقطة عابرة في التاريخ، أو كتورط فرضته الظروف المؤسفة -كما يقول القوميون المناصرون للحزب بأسى كاذب- بل يجب أن يحمل الحزب وللأبد، هذا الإثم على كتفيه، وأن يغدو جزءًا من حمولته الرمزية الكلية، وأن يطغى تورطه الحاضر في قتل السوريين، على صورته القديمة كحزب مقاوم، ومن الغباء الشديد أن نظن أن الجنود الذي ذهبوا لقتل وتعذيب السوريين سيعودون من هناك، أنقياء تمامًا كما ذهبوا قبل ثلاثة أعوام، ليحاربوا إسرائيل، ثم يخلدون كأبطال ملحميين، لا يجرح بطولتهم أنهم قتلوا من السوريين في ثلاثة أعوام، أضعاف أضعاف أضعاف قتلى الحزب من الإسرائيلين منذ أن ظهر للوجود في الثمانينيات.
صحيح أننا لم نفعل شيئًا ذا بال لمساعدة السوريين في محرقتهم، لكن يمكننا على الأقل ألا نحول قاتليهم إلى أبطال.
هل إذن نمحو كل ما فعله كل حزب الله من مقاومة؟.. لا نستطيع لسبب شديد البساطة، وهو أن وضع الحزب الحالي، هو نتاج الاعتراف ببطولته وقت مقاومته، وهو بالفعل يستغل رأس المال الرمزي للمقاومة الذي منحه له الناس يومًا ما.
لذلك حين نتحدث عن الاستحقاقات المعنوية للمقاومة، ينبغي أن نتذكر أن الحزب قد أخذ حقه من رأس المال الرمزي هذا كاملًا. فهو الطرف اللبناني الوحيد المحتفظ بسلاحه، وبسيطرة شبه كاملة على مناطق الشيعة، وباتصالات خارجية لا تملكها سوى الدول، وتم التغاضي عن طائفيته أوقات كثيرة لهالة المقاومة حوله، وقرر الجميع أن يعامل قراره ببدء حرب تموز على أنها حرب تحرير وليس على أنها جزء من الرد الإيراني على الضغط الإسرائيلي على أمريكا لضرب إيران، تغاضى الكل عن ذلك، وخرج الجميع في مظاهرات لتأييد الحزب، وعلق الكثيرون صور زعيم الحزب كرمز للمقاومة، وعامله الناس كبطل عروبي إسلامي مشاع للجميع، في تلك اللحظة، بما فيهم بالتأكيد عشرات الآلاف من السوريين الذين ساهم الحزب بعد ذلك في قتلهم أو تهجيرهم.
ما يتم طلبه منا الآن، أن نوفي الحزب حقه المعنوي لمقاومته، كنا بالفعل قد وفيناه في وقته، ولولا ذلك لما كان للحزب ميليشيات طائفية خالصة تتدخل في حرب أهلية لتقتل الآلاف من السوريين، ثم تظل تطالبنا بدفع المزيد من الضرائب المعنوية على مقاومتها القديمة، وبأن نعمي أبصارنا تمامًا عن واقعها الطائفي المحض.
صحيح أننا لم نفعل شيئًا ذا بال لمساعدة السوريين في محرقتهم، لكن يمكننا ألا نعامل دماءهم كقضية هامشية يرى "الممانعون" أنها تنسينا الصورة الأكبر، أو على الأقل يمكننا ألا نحول قاتليهم إلى أبطال.
اقرأ/ي أيضًا: