"نحن قوميون، لأن القومية هي السبب الرئيسي لتوحيد هذه الأمة. ولا يغير من ذلك مطلقًا وجود عناصرٍ أخرى بجانب الأغلبية التركية، فبغض النظر عن كل شيءٍ آخر، إننا عازمون على تتريك كل من يعيش في دولتنا، والقضاء على من يقف في وجه الأتراك ومشروع التتريك." [عصمت إينونو، صحيفة مليت 31 أغسطس 1930، عدد: 1636].
كانت هذه كلمات عصمت إينونو، ثاني رؤساء الجمهورية التركية بعد كمال أتاتورك، ليعلن عن بدء مرحلةٍ شنّت الدولة التركية فيها حربًا ضروسًا على أعضاء الأقليات العرقية والإثنية المتنوعة، وفي مقدمتها الأقلية الكردية، التي تعيش في نطاق الحدود السياسية لتركيا الحديثة.
تركيا اليوم التي تحدها دولتان مفككتان، وتنظيم إرهابي شكّل دولة، بالتأكيد ليست هي تركيا أتاتورك وإينونو نفسها
وعلى مدار ثمانية عقودٍ بعد هذا الإعلان، تعاقبت على الدولة التركية أنظمةٌ سياسيةٌ وانقلاباتٌ عسكرية، ذات رؤى مختلفة ومتعارضة في أغلب الأحيان، بيد أن صراع الدولة مع الأكراد ظل من أشد ثوابت السياسة التركية رسوخًا، ليتكلل ذلك الصراع التاريخي بتبني حزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي أسسه عبدالله أوجلان ذو الخلفية اليسارية الراديكالية والمطالب الانفصالية، العنف في عام 1984 بعد ستة أعوامٍ من تأسيسه.
بدون فهم السياق التاريخي الذي شنّت فيه الدولة، التركية حصرًا منذ لحظة ولادتها الأولى، حربًا عنيفةً ضد الأقلية الكردية العنيدة، لا يمكن فهم ما يجري الآن على الساحة السياسية التركية بعد أن فُتح الملف الدامي مجددًا.
ورغم اشتداد حدة التوتر الحالي بين الحكومة الحالية والأكراد، فإن العدالة والتنمية، الحزب الحاكم، كان لأسبابٍ عديدة، يختلف المراقبون في تحديدها، أقرب الأحزاب التركية للأكراد منذ وصوله إلى الحكم في عام 2002، ولمدة عشرة أعوامٍ على الأقل. فمسار المصالحة بين الأكراد وحزبهم المسلح من جانبٍ، والدولة التركية من جانبٍ آخر، يرتبط على نحوٍ وثيق بحكومة العدالة والتنمية، كما أن الفضل في حصول الأكراد على كثيرٍ من حقوقهم المدنية خلال العقد المنصرم يُنسب إليها.
ولكن الأمر تغيّر في السنوات القليلة الماضية، وتحديدًا عقب اندلاع مظاهرات جيزي بارك المعارضة للحكومة والتي شارك فيها الأكراد بشكلٍ ملحوظ عام 2013. ومع ذلك لم تتفاقم الأزمة، لتهدد مسار المصالحة كليةً، إلا بعد تعامل الدولة العنيف مع المظاهرات الكردية التي خرجت مناديةً بتدخل تركيا في الحرب على تنظيم داعش أثناء محاصرته مدينة كوباني السورية ذات الأغلبية الكردية. ثم أتت نتيجة الانتخابات البرلمانية الأخيرة، في يونية الماضي، صادمةً للعدالة والتنمية الذي لم يستطع تشكيل الحكومة منفردًا، لأول مرةٍ في تاريخه منذ وصوله إلى الحكم، بسبب استطاعة حزب الشعوب الديمقراطية (HDP)، الذي تم تشكيله بتحالف ممثلي الأكراد السياسيين مع قوى وحركات يساريةٍ أخرى، عبور حاجز العشرة بالمائة ليمثّل بالبرلمان.
وبسبب عدم قدرة الأحزاب الأربعة، الممثلة في البرلمان، على التوافق على ائتلافٍ يُسمح له بالحصول على أكثر من خمسين بالمائة من أصوات البرلمان وتشكيل الحكومة، صار لزامًا إجراء الانتخابات مرةً أخرى، وهو ماتقرر ليكون بالأول من تشرين الثاني/نوفمبر القادم.
وفي خضم التشكيك في النوايا وتبادل الاتهامات بين القوى السياسية، اندلعت مظاهرات الأكراد التي قوبلت هذه المرة بعنفٍ مفرطٍ من قبل الدولة. وواكب ذلك إعلان العمال الكردستاني (PKK) استئناف أعماله العنيفة مجددًا لتصل الأمور إلى ذروة تعقيدها، مع تخوفات الحزب الحاكم من إزاحته عن السلطة. ومنذ ما يقرب من شهرين وحتى اللحظة الراهنة، تشن الدولة حربًا، تستخدم فيها طائرات الإف 16، على معاقل من تسميهم "الإرهابيين" في المدن الكردية.
وفي محاولةٍ لتجاوز تاريخ العنف الطويل بين الدولة والأكراد، أعلن عددٌ من الأحزاب والقوى اليسارية، من بينها حزب الشعوب الديمقراطية (HDP)، في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر الجاري عن تنظيمهم مظاهرةٍ، في اليوم التالي بالعاصمة أنقرة، تدعو إلى إنهاء الصراع المتجدد بين العمال الكردستاني (PKK) والحكومة التركية. وبحسب سي إن إن، توافد قرابة أربعة عشر ألف شخص في صبيحة العاشر من تشرين الأول/أكتوبر على المكان المقرر لتنظيم التظاهرة، ومع بدء الفعاليات انفجرت قنبلتان في محيط المنطقة، وأسفرتا عن مقتل سبعة وتسعين شخصًا وإصابة المئات، لتسجل العملية الإرهابية بذلك رقمًا قياسيًا في عدد الضحايا المدنيين.
من جانبه، قال داوود أوغلو، بحسب صحيفة الجارديان، خلال خطابٍ أذيع على "إن تي في" التركية بعد يومين من الحادث، "إن الهجمات كانت محاولةً للتأثير على الانتخابات البرلمانية، المقرر عقدها في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر"، أما أعضاء حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، الذي يُعتقد بحسب الإندبندنت أن يكون المستهدف الأساسي من التفجيرات، فيرون أن الحكومة شاركت بتقصيرها وإهمالها في وقوع الحادث. الأمر الذي يفسر هتافات الجماهير المنددة بحزب العدالة والتنمية الحاكم ورجب طيب أردوغان أثناء خطابات تأبين الضحايا.
وهو الأمر الذي يفسر أيضًا تصريحات صلاح الدين دميرتاش، رئيس حزب الشعوب الديمقراطي والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية، التي نقلت صحيفة راديكال التركية أنه قال فيها: "إننا نشعر بتخوفاتٍ عميقة للغاية إزاء تغافل الحكومة شديد الخطورة ومسئوليتها السياسية عمّا حدث، وما هو أخطر من ذلك أننا نظن أن هناك مسئولين بالدولة يغضون الطرف عن جماعاتٍ وتنظيمات تقوم بمثل هذه العمليات. ورغم اعتقادنا أن هذا الحادث يرتبط بداعش على نحوٍ وثيق، فإن جزءًا كبيرًا يقع على عاتق الدولة والحكومة التي قدّمت الدعم لمثل هذه الجماعات".
ويبدو أن الاستغلال السياسي للفاجعة، وتوظيفها لخدمة أهداف انتخابية قريبة، لم يقتصر على طرفٍ سياسيٍ دون آخر، فقد أعلن رئيس الحكومة، داوود أوغلو، مؤخرًا، وفقًا لصحيفة "سون دقيقة" التركية، أن الحكومة تعتقد أن "كلا من داعش والعمال الكردستاني متورطان في العملية الإرهابية." وهو ما اعتبِر استفزازًا صريحًا للعمال الكردستاني الذي كان قد أعلن، بعد ساعاتٍ من الهجوم، كما ذكرت صحيفة الجارديان، وقفًا أحادي الجانب لإطلاق النار، في محاولةٍ لتهدئة التوتر قبل الانتخابات، إلا أن الحكومة التركية أمرت بالاستمرار في شن غاراتٍ جوية على مواقعٍ لمقاتلي الحزب، مما أسفر عن مقتل تسعة وأربعين من مقاتليه، وفقًا لبيانات الجيش التركي.
ويبدو أن البلاد الآن مقبلة على اختبارٍ صعب، مع تجدد الصراع التاريخي بين الأكراد والدولة التركية، في ظل وضعٍ إقليميٍ يوشك على الانفجار. فتركيا اليوم التي تحدها دولتان مفككتان، وتنظيم إرهابي شكّل دولته.. تركيا المتهمة من قبل أطرافٍ إقليمية عدة بتبنيها أجندة معينة والعمل للتدخل في شؤون دولٍ أجنبية بدعم قوى سياسية بعينها... بالتأكيد ليست هي تركيا أتاتورك وإينونو نفسها.
فهل تتصالح البلاد مع تاريخها وتقرأه على نحوٍ نقدي للتعلم من أخطاء الماضي، والتوافق على صيغةٍ تكفل الحرية والكرامة للجميع دون تمييزٍ على أساسٍ دينيٍ أو عرقي، أم تلحق بركب دول الشرق الأوسط التي تتساقط إحداها خلف الأخرى بين براثن التطرف والطائفية! هذا ما ستنبئنا به الشهور القليلة القادمة به.
اقرأ/ي أيضًا: مقدمات كردية لا بد منها