15-سبتمبر-2023
مبنى شركة غوغل في لندن

تزعم الحكومة الأمريكية بأن غوغل كرّست مكانتها لإضعاف المنافسة في مجال محركات البحث (getty)

شهد عالم التكنولوجيا في الأيام الأخيرة حدثًا بارزًا هو الأول من نوعه خلال ربع قرن من الزمن؛ إذ افتُتحت يوم الثلاثاء، 11 أيلول/ سبتمبر، جلسات قضية مكافحة الاحتكار التي أقامتها وزارة العدل الأمريكية بحق شركة جوجل، وبذلك بدأت رسميًا محاكمة عملاق التكنولوجيا التي ربما تستمر لعدة أشهر قادمة. 

ويعود أصل القضية إلى مزاعم الحكومة الأمريكية بأنّ شركة جوجل كرّست مكانتها الرائدة في عالم التكنولوجيا، على نحو غير قانوني، لإضعاف المنافسة في مجال أعمالها الأساسي، أي محركات البحث. ولا ريب أنّ هذه المحاكمة تحظى باهتمام إعلامي كبير، لا سيّما أنها أول محاكمة من نوعها فيما يخص قضايا مكافحة الاحتكار لشركة تكنولوجية منذ ربع قرن تقريبًا؛ ففي أواخر التسعينيات من القرن الماضي، أقامت وزارة العدل الأمريكية دعوى قضائية بحق مايكروسوفت بتهم مماثلة. 

انطلاق المحاكمة

استهلّ كينيث دينترز، محامي وزارة العدل الأمريكية، مرافعته الافتتاحية بالقول: "إنّ عجلة التقدم في هذا المجال ما زالت تواصل مسيرتها منذ 12 عامًا، بيد أنّها ولا شك تصب دومًا في مصلحة شركة جوجل. ومن شأن الأدلة التي نعرضها في هذه المحاكمة أن تبين أنّهم أخفوا وثائق رسمية وأتلفوها لإداركهم بأنهم ينتهكون قوانين مكافحة الاحتكار". 

تزعم الحكومة الأمريكية بأنّ شركة جوجل كرّست مكانتها الرائدة في عالم التكنولوجيا، على نحو غير قانوني، لإضعاف المنافسة في مجال أعمالها الأساسي، أي محركات البحث

في المقابل، قال جون شميدتلين، محامي جوجل، في المرافعة الافتتاحية إنّ نجاح الشركة مرده إلى جودة المنتجات والخدمات التي توفرها للمستخدمين، وليس بسبب أي سلوكيات تنتهك مبدأ التنافسية. ويؤكد شميدتلين أنّ جوجل تواجه مجموعة كبيرة من محركات البحث المنافسة، خاصة المنصات التي توفر خيار البحث في قطاعات بعينها مثل Tripadvisor وGrubhub. 

ويتابع شميدتلين كلامه بالقول: "لا يحق لهذه المحكمة أن تتدخل في شؤون السوق وتنهى جوجل عن المنافسة. فقانون مكافحة الاحتكار لعنة على الولايات المتحدة الأمريكية!". 

ولا شكّ أنّ هذه المحاكمة تتوج سنين طوال من التحقيقات التي أجرتها الحكومة الأمريكية بشأن ممارسات شركة جوجل، وهي إلى ذلك علامة فارقة في خضم الجهود الحثيثة التي تبذلها واشنطن لتنظيم المنافسة في مجال التكنولوجيا. وشهدت الأعوام الماضية جدلًا كبيرًا بشأن موضوع المنافسة والاحتكار، لا سيّما في ظل دعوة مجموعة كبيرة من الباحثين الاختصاصيين إلى إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار بفعالية أكبر بحق عمالقة التكنولوجيا. ومن هذا المنطلق، تكتسب هذه المحاكمة أهمية بالغة لأن جميع الأنظار موجهة نحو نتيجتها النهائية، وتحديد إن كانت المساعي الحالية قادرة على تجاوز الحجج النظرية وتقليص نفوذ شركات التكنولوجيا العملاقة. 

ومن نافل القول إنّ فوز الحكومة في هذه القضية سيحدث تغييرًا جذريًا في طريقة تصفح المستخدمين واستعمالهم لشبكة الإنترنت، لا سيما أنها تحدّ من قدرة جوجل على استثمار مواردها المالية الضخمة في تعزيز هيمنتها على قطاع محركات البحث، ودفع أموال للشركات الأخرى حتى يصبح محرك البحث جوجل المحرك الافتراضي على الأجهزة المحمولة. ولا محالة أنّ جوجل على وشك تكبد خسائر في كلتا الحالتين، سواء فازت بالقضية أم خسرتها. فقضاء أشهر طويلة في هذه المحاكمة، وإدلاء كبار المسؤولين التنفيذيين في الشركة بشهاداتهم تحت القسم، كلها أمور قد تُبطئ نمو الشركة على المدى المنظور. 

وتتزامن المحاكمة مع بروز تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المتقدمة، التي أعادت توزيع حصص الشركات ومكاسبها في صناعة التكنولوجيا الفائقة. ومن المحتمل أنّ تسلط القضية الضوء على احتمال أن تواصل جوجل هيمنتها على سوق محركات البحث في عصر الذكاء الاصطناعي، أو تنكفئ جرّاء تقدم بعض منافسيها، مثل مايكروسوفت. 

وفي هذا السياق، يشير شميدتلين إلى أنّ هذه القضية والدعوى "متعلقة أساسًا بشركة مايكروسوفت"، فالحكومة تعوّل، في نظره، تعويلًا كبيرًا على أدلة مزعومة توحي بتأثير جوجل على منافستها المباشرة مايكروسوفت، التي وصفها شميدتلين بأنّها "الضحية المفترضة في قضية المدّعين العامين". وفي هذه النقطة يصرّ شميدتلين على أنّ نجاح جوجل وشهرتها المهيمنة على منافستها نابعان من إخفاق مايكروسوفت في استثمار مواردها والابتكار بما يتلاءم مع متطلبات هذا المجال، ولا علاقة لهذا الإخفاق بمزاعم أنها مُنِعت من مواكبة جوجل ومنافستها.  

ولم يغفل شميدتلين عن الإشارة إلى استثمارات مايكروسوفت الأخيرة لدمج أدوات الذكاء الاصطناعي في محرك البحث بينج، وهو إلى ذلك عدّها دليلًا على المنافسة المستمرة والابتكار في هذا المجال. 

من جهة أخرى، أشار بيل كافانو، وهو ممثل مجموعة من المدعين العامين ممن أقاموا دعوى قضائية بحق جوجل، في مرافعته الافتتاحية إلى نمو هيمنة جوجل على سوق محركات البحث منذ أن حققت لجنة التجارة الفيدرالية قبل 10 سنين في مزاعم تتهم الشركة باتباع ممارسة مخلّة بالمنافسة في مجال محركات البحث. والمثير للاستغراب أنّ لجنة التجارة الفيدرالية امتنعت آنذاك عن مواصلة التحقيق في هذه القضية. 

تدفع جوجل سنويًا مبلغًا قدره 10 مليارات دولار أمريكي لشركات أخرى لكي يكون "جوجل" هو محرك البحث الافتراضي في أجهزتها

وتواصلت الإثارة في الجلسة الأولى، لا سيما حينما استدعت المحكمة هال فاريان، كبير الخبراء الاقتصاديين في جوجل، وطلبت منه المثول أمامها للإدلاء بشهادته. وهنا استعرض دينترز مذكرة داخلية كتبها فاريان عام 2003 بعنوان "أفكار عن جوجل ومايكروسوفت"، وتضمنت المذكرة توصيات حازمة من فاريان بشأن انتقاء العبارات المناسبة في أثناء الحديث عن مايكروسوفت داخل الشركة وخارجها، وجاء في المذكرة: 

"حريّ بنا أنّ نتوخى الحذر حين التحدث عن مايكروسوفت سرًا أو جهرًا، فعلينا أن نتخيّر ألفاظنا ونتجنب عبارات من قبيل "قطع إمدادات الهواء عنهم". ولعلّ من دواعي السخرية أن تعمد مايكروسوفت إلى استغلال مسألة مكافحة الاحتكار متهمةً جوجل بها، لكن الأمر ليس مستبعدًا بتاتًا". 

وما لبث دينترز أنّ عرض كذلك نسخة عن رسالة بريد إلكتروني داخلي كتبه فاريان في شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 2009، وطالب من زملائه في جوجل باستعمال عبارة "حصة طلبات البحث" بدلًا من "حصة السوق". وقال فاريان في أثناء استجوابه إنّ المخاوف بخصوص مكافحة الاحتكار دفعته آنذاك إلى إرسال ذلك البريد الإلكتروني. ومن البديهي القول إنّ تعريف مصطلح "السوق" عند جوجل وحصتها المهيمنة في ذلك السوق من القضايا الأساسية المرتبطة بمكافحة الاحتكار. 

تفاصيل القضية 

لا ريب أنّ إحدى الجوانب المثيرة في هذه القضية هي مسألة المبالغ المالية التي تدفعها جوجل لشركات تكنولوجيا أخرى مثل آبل؛ فجوجل تدفع لهم أموالًا كثيرة مقابل اعتماد محرك بحث جوجل محركًا افتراضيًا في أجهزتهم الذكية (بدأ ذلك منذ مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين). ومن المتوقع أنّ تبحث المحكمة في هذا الأمر، خاصة أنّه قد يشكل سوء استخدام للهيمنة والنفوذ، وستتولى المحكمة كذلك تقييم إن كانت جوجل عمدت إلى تأخير وصول مايكروسوفت إلى أداة Search Ads 360 المختصة بالإعلان في محرك البحث، فهذا الأمر ربما يندرج ضمن السلوكيات المخلّة بالمنافسة. 

وفي هذا الصدد، يقول كينيث دينترز إنّ جوجل تدفع سنويًا مبلغًا قدره 10 مليارات دولار أمريكي لشركات أخرى، على أن يكون جوجل هو محرك البحث الافتراضي في متصفحات الويب والأجهزة الذكية لدى تلك الشركات. ومع ذلك تظل تفاصيل حساسة ومثيرة للجدل في هذا الجانب محظورة على العامة في الوقت الراهن، لا سيّما المعلومات عن الانخفاض المزعوم لحصص المنافسين في سوق محركات البحث خلال العقد الماضي. 

وعلى العموم، يستحوذ محرك البحث جوجل على حصة قدرها 90% من سوق محركات البحث، فلا أحد يشكك قط في هيمنة جوجل على هذا القطاع، لكن يبدو متعذرًا الإجابة عن سؤال شائك بشأن استغلال جوجل المزعوم لهيمنتها ومكانتها لإضعاف منافسيها، فالإجابة عنه تستلزم الخوض في مداخل قانون مكافحة الاحتكار الغامضة ومخارجه؛ فعلى سبيل المثال، لاقت لجنة التجارة الفيدرالية مشقة بالغةً في الإتيان بأدلة صريحة في خضم مساعيها الحديثة لتقليص نفوذ عمالة وادي السيليكون. 

سيُحدث فوز الحكومة في هذه القضية تغييرًا جذريًا في طريقة تصفح المستخدمين واستعمالهم لشبكة الإنترنت

ويصرّ محامو الادعاء على جدوى القضية ونجاعتها، حتى وإنْ انتهت المحاكمة بعدم إصدار القاضي لأي عقوبات صريحة؛ فالأحداث في السنين السابقة تبرهن أنّ قضايا مشابهة كبحت جماح شركات التكنولوجيا العملاقة؛ إذ يضرب المحامون مثلًا بصعود جوجل والشركات المنافسة الأخرى في أعقاب القضية التي رفعتها وزارة العدل بحق مايكروسوفت عام 2000، وانتهت مجرياتها إلى تسوية بين الطرفين. 

وقال جاري ريباك، أحد محامي مكافحة الاحتكار ممن بذل جهودًا بارزة ساهم في إقامة القضية بحق مايكروسوفت: "أوشكت شركة مايكروسوفت آنذاك على تدمير جوجل وفيسبوك وأمازون، بيد أنها لم تقدر على ذلك بسبب إنفاذ قانون محاكمة الاحتكار". 

وعلى العموم لا يتوقع أنّ يصدر الحكم في قضية جوجل إلّا في العام المقبل، غير أنّ الأمر يستلزم سنين عديدة قبل أن تتكشف تأثيرات هذه القضية والمحاكمة على مسار الشركة ونموها، خاصة فيما يتعلق بآفاقها وتطلعاته في قطاع الذكاء الاصطناعي الناشئ.