إن ثالوث الإعلام ورجال الأعمال والسلطة السياسية هو ثالوث مقدّس في مصر، لا يستقيم ضلع فيه دون آخر. فلم تكن ما تُعرف إعلاميًا بقضية "رشوة الزراعة" إلا شاهدًا جديدًا على هذا الثالوث، حينما يكون الراشي رجل أعمال والمرتشي وزيرًا والوسيط رجل إعلام. وعليه، بدل أن يكون الإعلام كاشفًا للفساد، كان وسيطًا وشريكًا فيه.
بدل أن يكون الإعلام المصري كاشفًا للفساد كان وسيطًا وشريكًا فيه
وتتمثّل تفاصيل هذه القضية، التي أطاحت بحكومة محلب، في تورّط وزير الزراعة صلاح هلال في قضية رشوة لبيع أرض على ملك الدولة في محافظة البحيرة لرجل أعمال بطريقة غير سليمة قانونيًا، وتولّى الوساطة في العملية الصحفي في "اليوم السّابع" محمّد فودة. وليست هذه المرّة الأولى التي يتم القبض فيها على فودة على خلفية قضية فساد. ففي 2002، تمّ الحكم عليه بخمس سنوات على خلفية تورّطه في قضية وساطة بيع أراض تابعة لمصلحة الآثار بوزارة الثقافة مقابل رشوة من رجال أعمال.
وفي البداية، تناقلت وسائل إعلام عديدة تورّط عدد من الوزراء وأكثر من صحفي في العملية وورد تحديدًا اسميّ خالد صالح رئيس تحرير "اليوم السابع" ومجدي الجلاد مقدّم برنامج في قناة "سي بي سي" المملوكة لرجل الأعمال محمد الأمين. ثم أصدرت النيابة بلاغًا أكّدت فيه أن المتورّطين هم ثلاثة، وزير الزراعة، ومدير مكتبه، والصحفي محمد فودة. وأكّد البيان، على حظر النّشر في القضية، وهو الإجراء الأكثر تواترًا اليوم في مصر لمنع تناول القضايا ومناقشتها.
وقد قامت مؤسسة "اليوم السابع"، وهي من أكبر أبواق الدعاية لنظام السيسي، بإصدار بيان تنفي فيه تورّطها في قضية "فساد الزراعة" متّهمة الإخوان بالوقوف وراء ما أسمتها بالشائعات التي طالتها وطالت "عددًا كبيرًا من رجال الأعمال الوطنيين". وفي البيان، ذكرت المؤسسة أن لديها "أرشيفًا متكاملًا عن جرائم حالية وسابقة لهذه الصحف الصفراء، سيوضع أمام جهات التحقيق في الوقت المناسب بالتفاصيل"، وهو ما يكشف وضوحًا عن حالة الابتزاز السائدة في مصر بين مختلف الفاعلين في دولة، يقول المراقبون، إن قانونها وقضاءها هما رهن إشارة السلطة التنفيذية.
وللتذكير، لا يزال رئيس الجمهورية يمارس سلطة التشريع رغم مرور أكثر من 15 شهرًا من انتخابه في ظلّ التأخر المتواصل لتنظيم الانتخابات البرلمانية.
كما ادّعى مجدي الجلاد، الذي ورد اسمه في بداية التناول الإعلامي للقضية، أنه سيقوم في الحلقات القادمة من برنامجه التلفزيوني بكشف عدد من قضايا الفساد وهو ما لم يقم به لاحقًا. والمتابع للإعلام المصري، يلاحظ أن الجلاد، وجميع زملائه في مختلف وسائل الإعلام، لم يتناولوا عددًا من قضايا الفساد التي لاقت صدى واسعًا خارج الإعلام المصري على غرار ملف الصناديق السيادية الخاصة بالمؤسسة العسكرية في مصر، الذي تناولته الدورية المتخصصة "أفريكان كونفدنشال" في تحقيق مطوّل نُشر في آيار/مايو الفارط. وجاء في التقرير أن "الأموال المسروقة التي تم أخذها من أموال الدولة تقدر بـ 9.4 مليار دولار".
تؤكد تقارير المؤسسات الدولية غياب إرادة سياسة حقيقية لمكافحة الفساد ومعاقبة الفاسدين في مصر
وبالعودة للصحفي محمّد فودة، المتورّط في "قضية الزراعة"، وبمراجعة مقالاته في "اليوم السابع"، نتبين مقالًا له، كتبه في بداية هذه السنة، يمدح من خلاله وزير الزراعة الأسبق عادل البلتاجي واصفًا إياه بـ"خط الدفاع الأول" عن الأراضي الزراعية. ويقول فودة في هذا المقال: "لقد كانت عقدتنا من قبل هي العلم وعقبتنا الأساسية في التقدم هي الفساد". ولكن متلازمة "قول ما لا يعمل" هي متلازمة شائعة في مصر، فالجميع، بداية من رئيس الجمهورية وحتى المحافظين مرورًا بأعضاء الحكومة، يؤكدون في جميع لقاءاتهم أنّهم يجعلون من مكافحة الفساد أولوية في أعمالهم. ومقابل ذلك، لا تزال التقارير، من مؤسسات دولية مختصّة، تؤكد غياب إرادة سياسة حقيقية في مكافحة الفساد ومعاقبة الفاسدين.
وتورّط الإعلام المصري في الفساد يتجاوز حدود مصر حينما يكونون أبواق دعاية لأنظمة ديكتاتورية مقابل منح ورشاوي مالية. فقد كشف "الكتاب الأسود"، الذي نشرته رئاسة الجمهورية التونسية في نهاية 2013، عن تعامل وكالة الاتصال الخارجي، وهو جهاز الدعاية الإعلامية لنظام بن علي، مع عدد من الإعلاميين المصريين ومنهم مصطفى بكري عن جريدة "الأسبوع"، أسامة سرايا وإبراهيم نافع عن جريدة "الأهرام"، وسمير رجب عن "الجمهورية" وغيرهم. تلقى هؤلاء مبالغ مالية من الجهاز التونسي لتحسين صورة نظام بن علي والترويج له في وسائل الإعلام المصرية والعربية. ومن جانب آخر، وردت أسماء زهاء عشر إعلاميين في تسريبات مدير مكتب السيسي عباس كامل، إذ كان يقوم بتوجيههم للحديث عن مسائل وتجاهل أخرى وتشويهها.
وانخراط وسائل إعلام في تبييض الفساد رغم الادعاء بالمساهمة في مجهود مكافحته، أو تورّط إعلاميين في قضايا فساد والوساطة في عمليات رشوة تحديدًا، ليس بالغريب نظرًا إلى منظومة الإعلام المصري، الحكومي والخاص، وارتهانها للأجندات السياسية لمالكي ومموّلي وسائل الإعلام. بالنسبة لوسائل الإعلام الحكومية، لم تنخرط، بطبيعة ارتهانها للحكومة، إلا لأجنداتها ومشاريعها ولم تقم بدور جدي في مكافحة الفساد.
أما بالنسبة لوسائل الإعلام الخاصة، قنوات تلفزية وصحف ورقية والكترونية، فهي تبدو مرتهنة بشكل تام لرجال الأعمال المالكين، بحيث لا تكون وسيلة الإعلام إلا بوقًا لحماية مصالح رجل الأعمال وتنفيذ مشاريعه وتصوّراته. وبذلك، لم يُلاحظ انخراط وسائل الإعلام الخاصة في مجهود مكافحة الفساد، بل كانت ولا تزال سهامها موجّهة أساسًا ضد الخصوم السياسيين للسلطة الحاكمة. وهو ما بدا واضحًا منذ الانقلاب العسكري.
اقرأ أيضا: اللوبي الإسرائيلي في الإعلام العربي