"ماذا أفعل؟ أحاول تطليقها لكني أعود إليها، إنها نوع من المخدرات أو المسكنات، أتناولها دون استشارة طبية بل بسبب التعود عليها، يبدو أنها كمجرى الدم في العروق؟ لقد أخذت حيزًا كبيرًا من حياتي إن لم أقل إنها حياتي.."، هي كلمات لا أزال أتذكرها، سمعتها من الكاتب الصحفي الجزائري شوقي مدني، الذي توفي سنة 2009، إثر نوبة قلبية مفاجئة. وفاته حينها كان أثرها بالغًا في نفوس العشرات من الصحفيين.
حرك فقدان الإعلامي قاضي بومضول مبادرة تدعو إلى ضرورة إدراج مهنة الصحافة ضمن المهام الشاقة في الجزائر، التي يستفيد أصحابها من تقاعد مسبق
بعد ذلك، تتالت الوفيات لنساء ورجال الإعلام، بأزمة قلبية أومرض مزمن أو مرض خبيث، آخرها وفاة الإعلامي قاضي بومضول، رئيس تحرير قناة الشروق الجزائرية، حيث حرك فقدانه قبل ثلاثة أيام فقط، مبادرة تدعو إلى ضرورة إدراج مهنة الصحافة ضمن المهام الشاقة في الجزائر، التي يستفيد أصحابها من تقاعد مسبق، وقد أطلقها الصحفي محمد سيدمو، بجريدة الخبر الجزائرية، من واقع إعلامي مرير، كما يقول.
اقرأ/ي أيضًا: الصحف الجزائرية.. صراع البقاء
يقول صاحب المبادرة لـ"الترا صوت": إنه "اقترح أن تصنف الصحافة مع الست مهن التي صنفتها الحكومة الجزائرية ضمن المهن الشاقة، إذ يكفي أننا نعمل ما يعادل 60 ساعة في الأسبوع تحت ظروف قاسية أحيانًا"، مضيفًا أن "سبب الموت المفاجئ يكون في كثير من الأحيان بسبب الإرهاق الشديد، خصوصًا وأن أغلب الصحفيين في الجزائر لا يرتاحون إلا يومًا واحدًا في الأسبوع"، وهذا برأيه لا يمكنهم من استرجاع أنفاسهم علاوة على كون ساعات العمل الكثيفة لا تسمح بتصريف القلق الناتج عنها في نشاطات بدنية بالنسبة للكثيرين". وواصل قائلًا: إن "الصحفيين الشباب في الجزائر باتوا يرون يوميًا نهايات مأساوية لمن سبقوهم في المهنة، ومن ذلك الموت بالضغط والسرطان والسكري وحتى السل في سن مبكرة".
المبادرة أحدثت جدلًا كبيرًا في أوساط الصحفيين، حيث اعتبرت الإعلامية فتيحة بوروينة في تصريح لـ"الترا صوت" أن "المبادرة أو الدعوة التي وجهها زميل المهنة جاءت في محلها وفي وقتها"، داعية إلى "ضرورة الضغط على الحكومة من أجل أن تتبناها في إطار واجبها الأخلاقي في حماية صحفييها، وهم واجهة البلد أيضًا".
وتوضح الإعلامية بوروينة أن مشكل القطاع أنه "منقسم ومشتت وكل يعمل في زاويته"، مؤكدة أن "ظروف العمل التي يشتغل فيها الصحفيون لها دور في هذا التشتت، فالصحفيون، من منظور تجربتها الطويلة في المجال، لا يملكون تأمينًا اجتماعيًا، وينتظرون رواتب هزيلة نهاية الشهر لا تكفيهم لتسديد إيجار البيت أو دفع مستحقات عملية جراحية أو زيارة طبيب". كما لفتت إلى أن الصحفي في الجزائر لا وقت له للانخراط في تنظيم نقابي، معتبرة أن هذا الأخير "ليس له القدرة على الضغط على المؤسسات الإعلامية وأرباب العمل لتأمين الحياة الكريمة للصحفيين في أغلب الأحيان".
اقرأ/ي أيضًا: صحافيات الجزائر.. أحلام كبيرة وحصاد مر
"مهنة متعبة ومضنية"، يقول الإعلامي عبد الحفيظ سجال، مؤكدًا أن "أجواء العمل الصحفي في الجزائر، أي عمل الصحفي لأكثر من ساعات العمل القانونية دون تعويض، ومع الأمراض التي يصاب بها العديد من الصحفيين إضافة إلى الظروف المهنية والاجتماعية الصعبة، تحتم تصنيف الصحافة ضمن المهن الشاقة والاستفادة من التقاعد المسبق". وعن وضع ممارسة مهنة الصحافة في الجزائر، يضيف أنه "مختلف عن غيره في كذا موضع وفي كذا دولة، وهو ما تثبته التقارير الدولية والمحلية، التي أكدت في أكثر من مرة صعوبة الظروف التي يمارس فيها الصحفي الجزائري مهنته خاصة في القطاع الخاص".
تتعدد في الجزائر حالات الموت بالسرطان، ضغط الدم، والنوبة القلبية في صفوف الصحفيين وهو ما اضطرهم لدق ناقوس الخطر
أصوات كثيرة اليوم في الجزائر تطالب بإدراج مهنة الصحافة ضمن المهام الشاقة، التي تتطلب تقاعدًا مسبقًا، على غرار ست قطاعات أخرى وهي الصناعات الثقيلة والأشغال العمومية وأشغال الطرق والبناء والمناجم والمجال الكيميائي والنسيج. ارتفاع عدد الصحفيين الذين يموتون في صمت جعل الوضع مخيفًا، برأي الكثيرين، حيث تبعث اليوم إلى ضرورة إعادة النظر في طرق ووسائل العمل داخل دواليب المؤسسات الصحفية وغرف الأخبار في القنوات الجزائرية.
يقول الإعلامي السابق السعيد بوخليف لـ"الترا صوت": إن "الكثيرين ودعوا الحياة، وخرجوا من الباب الضيق للصحافة، التي اغتالتهم برصاصات رحيمة"، كاشفًا أنه شخصيًا "اختار هجرها مكرهًا لا بطل"، بحسبه، فهي "مهنة نبيلة لكنها في نفس الوقت تطلق على أصحابها الرصاصات الواحدة تلو الأخرى". ويشرح الصحفي، من خلال تجربته لمدة 23 سنة في الصحافة، قائلاً: "أولى الرصاصات هي رصاصة البحث عن المعلومة، وثانيها رصاصة التأكد من المعلومة من عدة مصادر، وثالثها إقناع مسؤوله المباشر بأهمية المعلومة، ورابعها الدخول في نقاش ربما يتحول إلى جدال أو حتى مناوشات لقبول كتابتها ثم رصاصة كتابة المعلومة، وفي آخر النهار، يتذكر أنه لم يتناول غذاءه فيصبح الغذاء مكان العشاء وهكذا".
حالات كثيرة من الصحفيين في الجزائر تعلقوا بصاحبة الجلالة، أو بالسلطة الرابعة، علقتهم الأخيرة بحبل تضيق دائرته كل يوم وكل شهر وكل سنة تمر على ممارستها، وكلما ضاقت الدائرة في عنق الصحفي كلما أعطاها أكثر من جهده بإرخاء الحبل قليلًا ومواصلة التنفس وتموينها بالمعلومة موازاة مع تلذذ طعم الشهرة والشكر والتكريمات، التي تأتي من هنا ومن هناك، فماذا يعمل الكريم إذا أكرمته يد صاحبة الجلالة؟ طبعًا هي تملكه بسحرها ومغناطيسها الدائم.
اقرأ/ي أيضًا: