قبل أشهر قليلة توفي عالم الرياضيات الأمريكي الشهير جون ناش (1928-2015) الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد 1994 عن عمر دقّ أبواب التسعين عامًا. جون ناش، لمن لا يعرفه، هو أحد المطورين في نظرية علم الألعاب، النظرية التي تمكن من يجيدها السيطرة على العالم اقتصاديًا وعلميًا، أو لنقل إن ناش هذا هو أحد صانعي الألعاب الأخطر في التاريخ.
ما نراه اليوم أن الجميع خضع لشروط نظرية الألعاب، وبدأ اللعب عبر تحالف هو الأوسع عالميًا
أمور كثيرة متشعبة ومعقدة تجري على سطح هذا الكوكب، تمس مصير الناس سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وعلميًا، أمور كثيرة متشعبة ومعقدة تصنع حاضرهم وتصيغ لهم مستقبلهم. الأغلبية الساحقة منهم تتشابك عليهم الأحداث ويعجزون عن فهم مجريات الأمور ويقعون في حيرة وارتباك وتشويش، وفي حالات مستعصية ينكرونها تمامًا ويعتبرون تفسيراتها مستحيلة التصديق. إليكم مثال "لعبة داعش"، نعم هي لعبة، وهكذا هو اسمها ببساطة "داعش"، اختصار لعبارة "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، هو ذاته الذي يتم ترسيخه في الإعلام العالمي رويدًا رويدًا باسم "الدولة الإسلامية".
علم نظرية الألعاب
في هذه النظرية، يقوم سيد اللعبة والمتحكم بها بابتكارها ليصل إلى هدف يرسمه، أو يعمد إلى تطويرها عن لعب قديمة أثبتت فعاليتها، ثم يطرحها على أرض الواقع لتصبح لعبة من لحم ودم، وبالتأكيد فإن صانع اللعبة ليس طرفًا فيها بقدر ما يكون ضابطًا لإيقاعها. بالنسبة للاعبين هناك أنواع شهيرة ومدروسة للكيفية التي ستسير عليها اللعبة منها: أولًا؛ ألعاب بمعلومات كاملة: كل اللاعبين يعرفون نوايا منافسيهم ومنافسوهم يعرفون ذلك، وهم يعرفون أن منافسيهم يعلمون ذلك، وهذه إحدى الحقائق المدهشة في نظرية علم الألعاب. ثانيًا؛ ألعاب بمعلومات منقوصة: واحد على الأقل من اللاعبين ليس له علم كامل بنوايا منافسيه.
في حالة لعبة داعش بات واضحًا للجميع أن كل الأطراف باتت تعرف اللعبة وتعرف قواعدها (أي تعلمتها كما يتعلم المبتدئ لعبة البوكر ثم يتقنها مستقبلًا)، الآن على الجميع أن يلعب، أما المكاسب من اللعبة فستكون بحسب مهارة كل لاعب. بالنسبة للمتفرجين، وهم في هذه الحالة الضحايا، تجدهم عاجزين عن تصديق أن لعبة داعش ابتكرتها أو طورتها عن ألعاب سابقة قوى أكبر من حكومات ومخابرات، بل قوى تصنع الألعاب لتعلب بها تلك الحكومات والأجهزة ذاتها. عند تلك القوى ولنسميها "X"، تصب آخر مبتكرات العلم ونظرياته يعمدون إلى تجربتها هنا وهناك قبل تطبيقها في المكان المستهدف.
ما نراه اليوم أن الجميع خضع لشروط اللعبة، وبدأ اللعب عبر تحالف هو الأوسع عالميًا، بدأ بقيادة أمريكا، ثم دخلت روسيا مباشرة في صلبها بقوات عسكرية وأسطول من الطيران الحربي. يشارك في اللعبة النظام السوري وحلفاؤه ومعارضوه والساعون لإسقاطه والمتطرفون والمتشددون. يظهر رئيس بطقم وكرافة محافظًا على أناقته دومًا ولغته فلسفية منطقية مقنعة لمن يجهل ما يجري في سوريا، ينكر دومًا ما تسبب به من قتل ويسقطها في بعض الأحيان على بعض رجاله الأغبياء، وعلى المقلب الآخر نرى كيف يتم تفصيل أعدائه بيسر وسهولة لاختصارهم بمتشددين غليظين (اسمهم الدواعش يسكنون في الدولة الإسلامية) بدقون وشعور شعثة، ويتلذذون بتقطيع الرؤوس وتهديد أمن أوروبا.
في الألعاب، نجد أن حجر النرد هو الصدفة، أما في صناعة الأحداث فالصدفة هي التطورات الخارجة عن إرادة صانعي اللعبة
إنها لعبة عجيبة حقًا، وتسلب أخبارها على الفضائيات عقول البشر في أرجاء المعمورة، ولكن الحقيقة التي تحكم قواعد التحكم في لعبة الشرق هي دائمًا طاغية يضيق الناس ذرعًا به، فيسلطون عليهم "متطرف ديني" لا يعرف الشفقة يذبح بالسكين والساطور ليبدو الطاغية الذي يقتل بالصواريخ والبراميل المتفجرة، أرحم في طرق الموت فقط، تدعى هذه اللعبة في علم استراتيجية الصراع بلعبة الأضداد والمتناقضات اللعبة الأكثر شهرة والمتجددة أبدًا في تاريخ البشر.
تطور مستويات اللعبة
قرار اتخاذ الحركة في اللعب، من الممكن أن يكون ناتجًا عن قرار شخصي أو بالصدفة. في الألعاب المعروفة نجد أن حجر النرد هو الصدفة، أما في صناعة الأحداث فالصدفة هي التطورات الخارجة عن إرادة صانعي اللعبة، وذلك نتيجة عوامل عدة.
مع تطور اللعبة يبدأ الخاسر بالانحسار أو يُسحق وتتم تصفيته، قد يكون هناك منتصر واحد أو مجموعة منتصرين يتقاسمون "الأرباح". في الحالة الثانية: لسير اللعبة التي تكون فيها "الألعاب بمعلومات منقوصة" ـ حيث أحد اللاعبين على الأقل ليس له علم كامل بنوايا منافسيه. هنا يا سادة أحيلكم إلى اللحظات التي سبقت سقوط صدام حسين عندما علا إيقاع العبارة الشهيرة التي نطق مندوب العراق في الأمم المتحدة: "اللعبة انتهت game over"، ثم تردد صداها في مختلف الأصقاع، ليعرف الجميع أن صدام حسين انتهى.
"اللعبة انتهت" أضحى شعارًا يرفع لكل طاغية على وشك انتهاء مدة صلاحيته، كل الأطراف تعلم النهاية إلا بطل اللعبة الذي تصل به الأمور عندما يدركها بذكائه الخاص إلى حد إنكارها والتصرف على أنه خالد إلى أبد الدهر. وقد يكون على علم بنهايته إذا كانت سير اللعبة بمعلومات كاملة.
مع كل لعبة مجنونة في السياسة والاقتصاد تكون عصية على فهمكم، تذكروا أن ثمة أفكارًا لجون ناش تقف خلفها
هذه العبارة ارتفعت في كل بلدان الربيع العربي عندما انتهت اللعبة. كل الطغاة والحكام، وحتى الدول، لعبة من لحم ودم لكن لا أحد يعلم متى سيكون هو بطل اللعبة. لنسميها إذًا لعبة صدام.. لعبة القذافي.. لعبة علي عبد الله صالح.. لعبة مبارك.. لعبة السيسي.. لعبة محمود عباس.. لعبة بشار الأسد..
لكل لعبته التي لها شروط تطور موضوعي وتطور ذاتي، وإن كانت مترابطة فهذا عائد لكونهم جميعًا أجزاء من لعبة أكبر يشترك فيها الجميع. وحده البطل يحاول أن يبعد عنه "الكأس" لأنه يدرك جيدًا أن هذا ليس كأس الفوز وإنما هو الكأس الذي سيتجرع به كأس الموت. تذكروا لعبة المقاومة التي أتقنها بشار الأسد بعد حرب العراق وكان المطلوب رأسه بعد صدام، وقد تمكن ببراعة من إبعاد الكأس عنه لثماني سنوات، ولكن إن تأخر الكأس عنه لا يعني انتهاء اللعبة وإنما طرح لعبة جديدة، بشروط جديدة، فرضتها تطور مهارات اللاعبين والظروف المحيطة بها.
كل منكم "لعبة" فاحرصوا أن يكون صانع الألعاب في حياتكم وعملكم، كي لا تكونوا مجرد ورقة شدة أو بيدق على رقعة شطرنج. مات عبقري الرياضيات جون ناش الذي طور نظرية الألعاب تلك، والتي شرحناها بمثالنا عن داعش والطغاة العرب؛ مات جون ناش بحادث سيارة مع زوجته، رغم أن عمره قارب التسعين عامًا وكان يمكن له أن يموت ميتة طبيعة. كان يمكن له أن يموت منتحرًا لأنه عانى من مرض الفصام وأمضى سنوات من عمره في مستشفى الأمراض العقلية، لكنه انتصر على الموت بفضل زوجته التي ظلت بقربه تبعده عنه.
لكن شروط "لعبة جون ناش" انتهت به للموت بحادث سيارة مع زوجته التي أنقذته من الموت مرار، بعد أن بلغ من الموت عتيًا. مع كل لعبة مجنونة في عالم السياسة والاقتصاد تكون عصية على فهمكم، تذكروا دائمًا أن ثمة أفكارًا لعبقري مجنون اسمه جون ناش، تقف خلفها.
اقرأ/ي أيضًا: