اندفع الحراكُ السوريُّ إلى بناء سياساتٍ جديدةٍ مذهلةٍ صبّت جميعها في استغراق المدن السورية بصوتٍ واحد، بيد أن الذُّهول والفجاءة اكتسبَتا مساحةً هائلةً حين رفع المتظاهرون من قيمة "المواطنة والإنسان والحرية" في ظلِّ سنواتٍ من النسيان بفعل السياسات الهمجية للسلطة الطائفية بلباسها البعثي المقيت لكينونة "الآخر" السوري؛ ليغدو الحراكُ الفسحةَ المضيئةَ للآخر أن يتكلم، وهذا ما كان مفاجئًا حين اتفقت المدن الثائرة على الكلمة الكردية: "Azadi = الحرية" شعارًا للمُظاهرات في إحدى الجُمَع.
إدراك سياسات الحراك كانت تعني أن يُعَاد ترتيب "العالم" من جديد في سوريا، بحيث يعود "الكائن" إلى حجمهِ الاعتيادي
لقد شكّلَ ذلك منعرجًا في سير اندفاع الرُّوح السُّورية -بلغة هيغيلية- نحو الحرية من حيث، هي انفتاح الكائن نحو آخره، بأعمق دلالات الاختلاف وتقويضًا للتماثل الذي غطّى بطبقةٍ ثخينةٍ من الصدأ حركة الوعي العام بشعارات منخورة وزائفة للتَسَتُّر على سياسات طائفية وعنصرية، لم تفعل سوى تأسيس الشُّروخ المجتمعية وتوسيع الصُّدوع بين أبناء البلد الواحد.
ومن هنا لم يكن التنافذ والتنادي بين "الحرية": و"Azadi" حدثًا عارضًا؛ وحتى لا يأخذنَّ هذا التفاعل مداه الأقصى سَتُفَعِّلُ دهاقنة السُّلطة وريقة مخفية في أدراجها القديمة عبر استقدام كائناتٍ مسعورة من فِجاج جبال "قنديل"؛ كائنات لم تصدّق كيف تخدم النَّظام الطائفي لتعطيل مسار التاريخ؛ لتخلط الأوراق وتحدَّ من هدير الحلم السُّوري في فضاءات شمال سوريا وشرقها. وعلى هذا الغِرار ستفِّعلُ الطغمة الحاكمة وريقاتها الخارجية المتمثلة بمقاتلين وبفائض حاقدٍ من لبنان والعراق وأفغانستان شرعوا يثأرون للحسين من الأطفال السوريين (يبرود مثلًا)، ثم ستطلق "دوائر المخابرات" لدى الطغمة كائنات غريبة تتغذى على عفن العصور الماضية، تعيث الرُّعب والفزع في المدن والبلدات لتحارب عنها قوى الثورة؛ فتزيد من أوجاع السوريين أكثر، فأكثر.
إنَّ توجَّهات "الاختلاف" التي تضرب بقوةٍ في سياسات الحراك لم تكن متوقَّعة البتة؛ ولذلك حينما أُدركت تلك السياسات جُوبهت بقوةٍ عنيفة أداةً وخطابًا؛ ليس من السُّلطة بالمعنى الألتوسيري فحسب وإنما من الفضاءات السوسيو-ثقافية التي يجد فيها النَّظام جذوره ورسوخه وامتدادته؛ ولذلك جرى اجتثاث أيِّ معارضة واقعية، أو محتملة، في هذه الفضاءات الموالية بدايةً بالسجن أو التخوين أو التصميت، ولم يبقَ سوى صوت واحد: "الأسد أو نحرق البلد"، "الأسد أو لا أحد"... إلخ. ومن هنا؛ فإدراك سياسات الحراك كانت تعني أن يُعَاد ترتيب "العالم" من جديد في سوريا، بحيث يعود "الكائن" إلى حجمهِ الاعتيادي؛ وهذا ما غدا مرفوضًا في منطقٍ بيئةٍ تجد في كينونتها والنظام تطابقًا، وائتلافًا، وتشاكلًا تامًّا.
إن هذه الفضاءات التي أتاح لها النظامُ الخروجَ من الذات والعتمة والجغرافيا المغلقة، ومن ثمَّ اغتصاب المشهد في مناحيه الاقتصادية والثقافية والاجتماعية طوال أربعين عامًا؛ لذلك كان من الاستحالة بمكان لهذه الفضاءات أن تَتَبنَّى سياسات الحراك وتفكَّ حالة تماثلها مع النَّظام إلا في حالاتٍ فرديةٍ محدودة. وبناء على ذلك يتموضع شرخ حادٌّ أو مواجهةٌ بين وعي اختلافي وآخر تماثُلي يجد في النظام تمثيلًا حقيقيًا لهويته. وطالما أن التطابق الهوياتي يجمع بين بنيتي النظام وهذه الفضاءات؛ كان من السهولة بمكانٍ أن يندفع مثقفو هذه الفضاءات (وباستثناءات فردية أيضًا!!) على مختلف مشاربهم الأيديولوجية في تأسيس خطابٍ بمواجهة سياسات الحراك. وربما، هنا، تبرز "الحملة المسعورة" لأدونيس في مناهضة هدير "الحلم" السوري ولسياسات الانتفاضة بخطابٍ يتغذّى من هيولى قاّرة في "منظومة أفكار" قادته يومًا ما إلى امتداح "همجية" الخميني بوصفها "ثورة"؛ لذا من المنطقي أن يتستَّر على جرائم حلفاء الخميني وشناعتهم بخطاب تبريري، استهزائي من شعب هُجِّرَ ويُهجّر من بلده بفعل آلة الموت من طائراتٍ وبراميل وصواريخ عابرة للقارات.
عَرَّى الحراكُ السُّوريُّ البُعْدَ "اللا إنسانيَّ" الذي يضرب بقوةٍ في جذور النّظام ويمنحه هويته المحضة
عَرَّى الحراكُ السُّوريُّ البُعْدَ "اللا إنسانيَّ" الذي يضرب بقوةٍ في جذور النّظام ويمنحه هويته المحضة من حيث هو حثالةٌ من قمامةِ المجتمع السوري وزبالاتِه ومهملاتِه -باستعمال أفهومات سلافوي جيجك- أي الفائض، الدَّاشر، الرافض لكلِّ منظومةٍ مجتمعيةٍ وأخلاقيةٍ: "لن نطلبَ الرحمةَ من أحدٍ لأننا لن نرحمَ أحدًا"؛ هكذا كانت كائنات "التشبيح الأسدي" تخطُّ هذه العلامات على جدران المدن المستباحة، لقد كان"اللا إنسانيُّ"، في الواقع، رهنَ التفعيل أبدًا حينما يشعر الدكتاتور، أبًا وابنًا، بأي خطر.
ومع مجريات الانتفاضة سيوسّع القابضون على شؤون "الحقد" في أجهزة النظام من أمداء "اللا إنساني" الذي يمثّل الرأسمالي الرمزي العتيد له؛ فعلاوة على التدمير والقتل المريع والتعذيب الممنهج في السجون والاغتصاب، سيلجأ النظام إلى أخسِّ سلاحٍ يعكسُ "اللا إنساني" في فلسفة القتل لديه، وذلك عبر "تجويع" الفضاءات الثائرة وآخرها "مضايا".
وإزاء التَّحدي المدهش الذي أظهره "الحلم السوري" صوب الحرية، لم يبق أمام الدكتاتور سوى الاستغاثة بقوة إقليمية تنهض من صدوع التاريخ الطائفي الأعمى لإعادة ظلال إمبراطورية لفظها تاريخ المنطقة، أو قوة عالمية تنطلق في أصلها وفصلها من "اللإنساني"، لتستعيد مجدًا زائفًا في يومٍ ما، لكنها قوى تتحد جميعًا لوأد "الاختلاف" وكبح "هدير الحرية" لتأسيس مسار جديد للتاريخ في سوريا.
اقرأ/ي أيضًا: