للسوريِّ كلَّ يوم سببٌ جديدٌ لتبادل الاتهامات والتخوينات وفي أبسط الحالات التقزيم والاستهتار بالآراء الأخرى ليست المناقِضة فحسب، بل حتى تلك الموافِقة دون أن ترتقي لرفعة شأن القائل صاحب الصولة والجولة على منبره الفيسبوكي، الحائز على الحصة الأكبر من اللايكات أو التابعين وتابعي التابعين.
ليس موت سمير القنطار الآن سوى مشهد آخر من مشاهد هذه المقارعة الفيسبوكية الهوجاء
ليست المرة الأولى التي يجري فيها التعليق على هذه الظاهرة ربما، ولكن في كل مرة أتساءل ترى متى سيكتفون أو يملون أو يلاحظون ولو لوهلة مقدار الهباء الذي يثيرونه زوابعَ من التفاهة غير المفضية إلى شيء.
ليس موت سمير القنطار الآن سوى مشهد آخر من مشاهد هذه المقارعة الهوجاء، وهنا لا أنوي أبدًا تناول شخصيته ولا الاصطفاف مع أحد، ولكن المثير هنا كثرة هذه الأطراف التي تتكاثف ميوعة صراعاتها على هزالة الغاية إن وجدت فيما لا تتعدى حقيقته مجرد عنفٍ لفظي موجهٍ من الجميع لكل من يجرؤ على أن يكون له وجهة نظر ما.
في جولةٍ ليلية على ردود الفعل على موت القنطار ما بين المواطنين العاديين (وأقصد هنا من لم يُبوّئوا أنفسَهم مثقفين ثوريين أو ثوريين أو مثقفين أو مقاومين أو سوري حر، أو أو ...) تتضح الفروق في ردات الفعل ببساطة، فتوصيفه واحد من اثنين (ولكن برتبةٍ أفقيةٍ طويلة): عميد الأسرى المحررين القائد الجهادي شهيد فلسطين والمقاومة كاسر شوكة إسرائيل بدمائه الزكية.. إسرائيل المرتعبة الآن من الرد إلى زوال، أو الشبيح الأول الخائن المتشيع قاتل الأطفال ناصر الأسد، مضافًا إلى الشتائم المريعة التي تناولت غيره من قبله مع التوصيفات الطائفية فهو الدرزي المتشيع الخائن النجس الفطيسة (أعتذر).
بينما حين تخوض في صفحات أولئك اللاعاديين الأكثر تفوقًا -ولا أقصد هنا أبدًا توجيه إهانةٍ لشخوصهم ولا التطاول على حقهم في إبداء الرأي والتحليل والتفكير الحر- ولكن أن تجد هذا القدر من الذكاء غير مستثمر إلى هدفٍ ما، هو حتمًا أمرٌ مخزٍ ومحبط إضافةً إلى كونه ممل جدًا.
هؤلاء أنفسهم تناولوا فيروز أيضًا بذاتِ المهاترات، وبنفس السوية تناولوا قضية الطعن الفلسطيني
بالنسبة لهؤلاء الخارجين عن مسلمات العدو الإسرائيلي الأوحد، وطهرانية المناضل الفلسطيني، الذين تجمعهم على اختلافهم وخلافاتهم معارضتهم للأسد تتراوح الآراء ما بين من يعترف للقنطار بتاريخ بطولي أثبتَته إسرائيل بإصرارها حتى اللحظة على ملاحقته ليتوّج من بعدها بالشهادة، وبين من يعتب عليه لتشويهه تاريخه ذاك، ولكن يغفر له خطاياه لمجرد موته على يد إسرائيل، وما بين متهمٍ لروسيا التي لم تستخدم دفاعاتها الجوية مفسحةً المجال حتمًا للجارة، العدوة المفترضة لحليفها، والتي لا تنكر صلتها الوطيدة بها لتمارس نشاطها المعتاد أو مُرجعًا ذلك لرغبة روسيا بالتخلص من النفوذ الإيراني والتحكم وحدها بسوريا، وما بين متهم للنظام نفسه الذي قرر تصفيته مستدلين على ذلك باغتيال عماد مَغنية أو غيره.
وفي أحد التعليقات: "معقول كل ما مقاوم يدعس سوريا ليقاوم بالجولان بتقدر إسرائيل تقتله؟"، وبنفس السياق تحليلٌ آخر يتهمُ حزبَ الله بالرضا كونه لا يثق بالقنطار نظرًا لطول فترة وجوده في السجون الإسرائيلية حيث كبر ودرس، وفوق هذا وذاك يتنطع فصيلٌ مسلحٌ ليتبنى عملية الاغتيال، ولا أحد لا أحد علّق على حقيقة أن إسرائيل لم تتبنّ العملية بعد.
بين هؤلاء وأولئك تعبر بالقصص التي تتناول تاريخه النضالي والشخصي، والكثير من المعلومات الموثقة أو غير الموثقة، التي تتناول طائفته، أخلاقه وزوجته التي طلقته -نصرةً للشعب السوري- لتسقط في نفس الهوة الشاسعة ما بين التفخيم والتسفيه. ولكن ليست هذه هي المشكلة، القضية الحقيقية هي أن قائل X يتهجم على قائل Y ولا يتقاربان حتى عند مهاجمتهما لـ Z.
أتذكر تمامًا يوم توفي وديع الصافي، كمَّ التسخيف المثير للدهشة الذي تعرض له كل من نعى أو أسف على موته، ثم الصبوحة طبعًا وبينهما موت رهائن أو صحفيين، فما أكثر الموت في هذه الأرجاء، ولكنْ استأذن قبل أن تتأثر، وبالطبع توخى كل الحذر قبل أن تتجرأ على التعاطف لأن اصطفافك على المحك.
هؤلاء أنفسهم تناولوا فيروز أيضًا بذاتِ المهاترات وبنفس سوية تناولهم للموقف من قضايا الطعن الفلسطيني الإسرائيلي وجدواه، وحتى تفجير عشرات المدنيين ببرميلٍ هنا أو بمفخخة هناك، ما المغزى.. ما الهدف من التهجم على مغنّية مجرد فنانة بصوت ساحر وتاريخ ساحر ودون معرفة فعلية بموقفها، وما شأنكم بهذا الموقف الذي لن يغير شيئًا في واقع الموت السوري المتواصل، وقبلها زياد وملكة جمال سوريا ثم لطيفة وبينهما الكثير أبَعدَ كلِّ ما جرى ما زلتم تتخيلون أن لشخصٍ ما أي أثر في تغيير الواقع؟ إن كان أعتى سياسييكم وثواركم لم يفلحوا في فرض موقفٍ أو اكتساب مصداقية، فبأي قشةٍ تتعلقون؟ أم هو العجز الذي يدفعكم للتهجم المستمر على الجميع مما يقربكم أكثر من دعاة المؤامرة الكونية على الشعب الفقير. "هزُلتْ" هكذا كان سيقول جدي.
هناك حاجة حقيقية لدراسة التفكير الجمعي للمهزومين الذين لم يبق لديهم سوى تكسير عكاكيز الآخرين
وفي هذا السياق من العنف اللفظي اللامسبوق جملةٌ أجدها بحقّ أسوأ منتوجات الفيسبوكيين السوريين "كل شي ماتو أطفال هلأ جاي تحزن على هاد"، و"هاد" يتغير اسمه من وديع الصافي إلى ضحايا الحولة أو البراميل أو الزهرة أو تشارلي أو هجمات باريس. إياك والتعاطف أيها المواطن الفيسبوكي إن كنت ترغب بالحفاظ على رصيدك الفيسبوكي وإلا فأنت مهدد بالتحقير والاستهزاء والبلوك لا سمح الله، وربما الاتهام بالاصطفاف على الضفةِ الأخرى. لكنّ الاختراع الأفظع "تم الدعس" يختلف فيه لون البوط ومموله وراكبه وتبقى النتيجة المقرفة نفسها، وما بينهما تم سحق فكرة مقاومة العدوّ الإسرائيلي بل وحتى التراخي في اعتباره عدوًا، بعد أن تم تفريغ فكرة المقاومة لتصبح مجرد وصفٍ ساخرٍ للنظام.
ما هذه الرغبة المهولة في التجريد من الغريزة الإنسانية الأعمق والأنبل: التعاطف. كيف تحول هؤلاء البشر المتذرعون بثوريتهم و"نضالهم" للحرية، إلى طغمةٍ همُّها تهميشُ حريتك، كيف تحولوا إلى قضاة يقصونك بكبسة زر بتهمٍ جاهزة لا تقل عن تهمة وهنِ عزيمة الأمةِ/ الدولة/ الثورة/ دماء الشهداء، من نصبهم على عروش اليقين؟
لا شك أن هناك حاجة حقيقية لدراسة التفكير الجمعي للمهزومين الذين لم يبق لديهم سوى تكسير عكاكيز الآخرين أو الأعور الذي لا يكتفي من فقئ العيون، ربما حجتهم العميقة هي بقايا توقعٍ أو رغبة بأن هذا الآخر "لو كان في صفنا لنجحنا لو ساندنا لتفوقنا"، الكمّ الغريب من الاتهامات ضد النشطاء والمثقفين والسياسيين والتخوين واتهامات الفساد والشللية والقبض واتّباع الأجندات والدسائس وتحت الطاولة وفوقها، ألم تتذكروا درس "الاتحاد قوة"؟ صدّعنا به منذ الطفولة.
صديقي أنت مرآة تلفازك وصفحتك الزرقاء، بقدر ما تبتلع كل صباحٍ من مؤثرات الميديا ومفرزات الديماغوجيا، ثم تجترها بآلية وذاكرة "طلائع البعث" الممجوجة ستتقيأ قراراتك القطعية على الملأ، فتروَّ.
اقرأ/ي أيضًا: