يحق لنا بعد خمسة أعوام من انفجار البركان السوري، أن نتساءل عما قدمه ثقافيًا ومعرفيًا، مقارنًة بما قدمته الثورات العربية عبر التاريخ، أو في حروبها الأهلية، من تجارب ثقافية تعتبر مقدمًة لما أفرزته لاحقًا من نماذج أدبية ومعرفية، عكس ما حدث في سوريا، من ناحية التركيز على الجانب السياسي-العسكري، وإهمال باقي الجوانب الفكرية والمعرفية التي كان من الأجدر بالطبقة المثقفة إعادة إنتاجها بأشكال متطورة عن سابقتها.
ما قدمه فرانز فانون جعله يصبح مرجعًا مهمًا للعديد من الحركات التحررية
في النظر إلى تجارب الثورات والحروب الأهلية التي عاشتها منطقة الشرق الأوسط بشكلٍ عام، نجد في تجربة الثورة الجزائرية حالًة مميزة، تمثلت في شخصية المناضل فرانز فانون، الذي تحول من طبيبٍ إلى أحد أهم الأعضاء في "جبهة التحرير الوطني" الجزائرية.
اقرأ/ي أيضًا: يوم الأرض.. فلسطينيو 48 في مواجهة "التشبيح"
ما قدمه فانون في كتاباته لحركات التحرر العالمية، من اعتماده على الثورة الجزائرية مثالًا، لحركات الكفاح المسلح ضد الاستعمار، جعله يصبح مرجعًا مهمًا للعديد من الحركات التحررية، وعلى رأسها مرحلة الكفاح المسلح العربي عمومًا، والفلسطيني خصوصًا، في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي منذ مطلع ستينيات القرن العشرين.
أيضًا نجد في القضية الفلسطينية مثالًا حيًا في تجربة "مجلة الكرمل"، التي تأسست في بيروت عام 1981 على يد الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، أي أن المجلة أسست في الوقت الذي كانت الحرب الأهلية تأكل من شوارع بيروت، لكنها رغم ذلك، نبهت العالم العربي إلى قراءة أعمال غالب هلسا وإلياس خوري، ودراسات إدوارد سعيد وفيصل دراج.
نلمس غيابًا واضحًا للأحزاب السياسية في الحالة السورية، عكس ما حصل مع الحالة الفلسطينية
ولعل ما قدمته بيروت من تجارب خلال مرحلة الصراع العربي-الإسرائيلي، والحرب الأهلية التي عاشتها، شكل منعطفًا مهمًا في الثقافة العربية، كما حصل مع تجربة مجلة "مواقف"، التي أسسها الشاعر السوري أدونيس، وهنا لا نُحاكي مواقف الشاعر السياسية المرتبطة برؤيته لما يحدث في سوريا، إنما نتطرق للتجربة التي قُدمت في أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات.
اقرأ/ي أيضًا: ملك الفلافل
تجربة مواقف شكلت منعطفًا في مراحل تطور الحداثة العربية، من ناحية تقديمها للعديد من الأبحاث والسجالات الفكرية والسياسية، ناهيك عن الأسماء التي برزت معها، وعملت على الحفر في التاريخ العربي، وجذور الفلسفة الإسلامية، وتقديمها لقراءات نقدية للتاريخ العربي الإسلامي، كما أنه علينا ألا ننسى دور يوسف الخال في "مجلة شعر" التي عرفتنا بقصيدة النثر الفرانكفونية.
ونقرأ في تجربة المعارضة اليسارية العراقية في صراعها مع الرئيس الراحل صدام حسين، شيئًا مختلفًا، من ناحية تأسيس أحد أهم أعضائها لـ"دار المدى"، بغض النظر عن طريقة تأسيسها، وما يدار من سرديات حوارية على طاولات مقاهي المثقفين، إلا أنها قدمت سلسلة أدبية-معرفية مهمة، كما في الترجمات الأدبية عن اللغة الإسبانية، وكتابات المفكر السوري صادق جلال العظم في "ذهنية التحريم".
أما في التجربة السورية فأن الأمر يختلف، فهي حتى الآن لم تستطع أن تقدم قراءة تفكيكية ومعرفية بعيدًا عن الكلاسيكيات المنتجة، حيثُ أن معظم مراكز الدراسات والأبحاث التي أسست حديثًا، بدعم من المنظمات غير الحكومية، لم نلمس لديها أي جديد فيما تقدمه، علاوًة على أنها تعيد إنتاج أفكارٍ مكررة، ومعروفة جيدًا داخل أروقة مثقفي الوسط المعارض، وداعميها الذين يظنون أنها تقدم جديدًا للباحثين، وهو ما يجعلها محط قراءة نقدية واسعة، وقاسية في نفس الوقت، نظرًا لأنها ستُعتمد بعد فترة من الزمن كمرجعٍ عن أعوام الحدث السورية الذي يتصاعد تعقيده يومًا بعد يوم.
الانتماء إلى الإبداع والثورة هو المغامرة، لأنه انتماء إلى غد يتأسس
كذلك نلمس غيابًا واضحًا للأحزاب السياسية في الحالة السورية، عكس ما حصل مع الحالة الفلسطينية، التي قدمت العديد من الحركات اليسارية التحررية، بينما كان الوضع مختلفًا في النموذج السوري، من ناحية غياب الأحزاب السياسية، والبرنامج البديل، وبروز التجاذبات السياسية داخل المعارضة نفسها، التي ما فتئت تترنح بين اليمين تارًة، واليسار تارًة أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: قراءة في اعتصامات الصدر
طبعًا، ذلك لا ينفي وجود عدد من التجارب القليلة جدًا، والتي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، مثل تجربة "مهرجان سينما الموبايل" في سوريا، وتجربة "موقع الجمهورية"، الذي أسسه مجموعة من المفكرين والمثقفين اليساريين السوريين، من ناحية أنه يقدم قراءة مختلفة للحالة السورية بعيدة عن السائد، ما يجعله موضع مراقبة ونقاش وبحث، بعد أن يتنبه الباحثون لما يقدمه من طروحات مختلفة.
ما قدم سابقًا، ليس إلا قراءة سريعة للحالة السورية الراهنة، أو ما يمكن اعتباره بداية قراءة نقدية، بهدف فتح السجال حول الحالة الفكرية-الثقافية، التي يجب علينا إنتاجها، بالاستناد إلى أعمال سبقتها، كاشتغال الشيخ الماركسي حسين مروة على "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، والذي دفع مقابله حياته ثمنًا. فما نحتاجه حاليًا، هو أشبه بما كتب في مقدمة العدد الأول من مجلة الكرمل الفلسطينية، بأن "الانتماء إلى الإبداع والثورة هو المغامرة، لأنه انتماء إلى غد يتأسس، وفي المغامرة نكتشف أن أرض خياراتنا لا تكون إلا أرض حرية".
اقرأ/ي أيضًا: