بين أسرة حاكمة، تغير جلدها القديم بآخر تدعي أنه جديد، ومؤسسة خاضعة بالكامل للقصر الملكي، ورجال دين تابعين مع مزيج من العادات والتقاليد التي تحكم دون قاضٍ، تقف المرأة السعودية وحيدة تصارع الجميع، مطالبة بأبسط حقوقها اليومية.
تحولت النساء في المملكة النفطية في السنة الأخيرة لورقة دعاية عامة وتسويق لابن سلمان دون أي إنصاف حقوقي لصالحهن
ظلت المرأة السعودية لسنوات تبحث عن حقوقها الضائعة. سُجن بعضهن واختفت أخريات قسريًا، من أجل حقوق أولية من بينها قيادة السيارة، حتى أصبحت أوضاع النساء في المملكة العربية السعودية تثير تعجب العالم، فهي ممنوعة من كل شيء تقريبًا، أو مشروطة في اتخاذها لأي قرار أو فعل بوصاية الرجال، في الدراسة والقيادة والسفر.
بين واشنطن والرياض.. تناقضات الدعاية الفجة
تحولت النساء في المملكة النفطية في السنة الأخيرة لورقة دعاية عامة وتسويق لولي العهد الجديد وصاحب السلطة الفعلية، محمد بن سلمان، القادم، كما يدعي على الأقل، لتحويل المملكة المتشددة لأخرى، وليلقي مجموعة من القرارات التي من المفترض أن تعزز حرية المرأة وتدعم وجودها في المجتمع، كان أبرزها الإعلان في أيلول/سبتمبر 2018 بالسماح للنساء بالقيادة بعد أن كانت السعودية الدولة الوحيدة في العالم التي تمنعهن من ذلك.
لكن ما كُشف جليًا بعد ذلك، أن كل هذا لم يكن إلا محاولة لجذب التأييد الغربي، وإبعاد الأعين عن الانتهاكات السعودية المستمرة سواء في الداخل أو في اليمن ومناطق عربية أخرى، أما على الأرض، فلا يجد النظام الحاكم غير الاستبداد طريقًا للتعامل مع النساء في المملكة.
لم يشفع للأمير المتهور تعديل بعض القوانين، إذ ظهر على صورته الحقيقية، نسخة طبق الأصل من سابقيه، بل أشد قمعًا، واستمرت السلطة في مواجهة الناشطات والتعامل بكل قسوة واستبداد معهن، على كافة المستويات السياسية والحقوقية، واعتقل ابن سلمان على مدار الشهور الماضية دعاة وسطيين وناشطات وحقوقيين كانوا من أبرز الداعمين لحقوق المرأة ومقاومة الاستبداد.
اقرأ/ي أيضًا: لعبة السلطة في السعودية.. ابن سلمان "يكافح الفساد" بالفساد!
بدت قرارات محمد بن سلمان صاحب رؤية 2030، كسردية جديدة في البداية لدعم عملية انتقال سلسة للسلطة، ولمواجهة الصراعات المتوقعة التي قد تحدث داخل الأسرة الحاكمة، وكذلك لتخفيف الانتقادات الدولية للمملكة. لكن المراقبين، ومنهم أولئك الذين روجوا له في بداية صعوده للسلطة، اكتشفوا لاحقًا أن للرجل المثير للجدل، مفهومه الخاص في الإصلاح، المأخوذ من معاجم القمع والاستبداد.
وخلال الفترة الماضية شنت السلطة حملة واسعة على ناشطات نسويات، واعتقلت بعضًا منهن، وهو ما سبق وأن فعلته من قبل في الفترة من أيلول/سبتمبر حتى تشرين الأول/أكتوبر 2017، بحق العشرات من الكتاب والصحفيين والمثقفين والدعاة والمدونين، إضافة إلى قضاة، كما قامت السلطات في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بحملة اعتقالات لـ 50 من الشخصيات البارزة من أمراء ووزراء سابقين ورجال أعمال بحجة الفساد بعد ساعات من إنشاء هيئة لمكافحة الفساد، تابعة لمحمد بن سلمان.
المساواة على طريقة ابن سلمان.. الاعتقالات للجميع
تؤكد حملة الاعتقالات الأخيرة التي استهدفت النشطاء المناصرين للحريات والناشطات النسويات الداعمات لقيادة المرأة للسيارة، قبل أسابيع من تطبيق القرار المزمع تنفيذه في أواخر شهر حزيران/يونيو الجاري، الشكوك حول التناقضات التي تعيشها الناشطات في المملكة.
كان الملفت في الحملة وفقًا لوكالة الأنباء السعودية - واس، أن جهاز أمن الدولة الجديد، التابع لولي العهد محمد بن سلمان هو من قام بالاعتقالات، ليؤكد أن ابن سلمان كان شخصيًا وراءها، وكانت التهمة "العمل المنظم ضد الثوابت الدينية والوطنية، والتواصل المشبوه مع جهات خارجية فيما يدعم أنشطتهم، وتجنيد أشخاص يعملون بمواقع حكومية حساسة وتقديم الدعم المالي للعناصر المعادية في الخارج بهدف النيل من أمن واستقرار المملكة وسلمها الاجتماعي، والمساس باللحمة الوطنية". ووفقًا لتصريحات للمتحدث الأمني لرئاسة أمن الدولة في 18 أيار/مايو الجاري، فإن "الجهة المختصة رصدت نشاطًا منسقًا للمجموعة وتخالف أعمالهم المادة الثانية عشرة من النظام الأساسي للحكم"، وأن "المجموعة يبلغ عددهم سبعة أشخاص، فيما لا يزال العمل جاريًا على تحديد كل من له صلة بأنشطتهم واتخاذ كافة الإجراءات النظامية بحقه"، وهو ما يشير لقرب اعتقالات أخرى قد تحدث.
ونشرت الصحف السعودية أسماء المجموعة المكونة من أربعة رجال وثلاث نساء، هم: إبراهيم عبدالرحمن المديميغ، المستشار السابق في مجلس الوزراء، وأحد محامي جمعية "حسم" المعارضة، ومحمد فهد الربيعة ناشط عروبي، وعبدالعزيز محمد المشعل، وعزيزة محمد اليوسف وهي ناشطة حقوقية سعودية وأكاديمية، وكانت من أبرز المطالبات بالسماح للمرأة بقيادة السيارة، وكذلك إحدى أشهر الناشطات النسويات السعوديات المعروفات لجين الهذلول، التي سبق وأن اعتقلت في 2014، لمحاولتها العبور من بوابة الحدود البرية الإماراتية السعودية وهي تقود سيارتها.
وشملت الحملة أيضًا اعتقال إيمان فهد النفجان مدونة سعودية ومن أبرز الداعمات لقيادة المرأة للسيارة، وكذلك شخص سابع قالت الصحف إن التحقيقات تتطلب عدم الإفصاح عن اسمه حاليًا، وبالرغم من الحفاوة التي حظي بها بعض هؤلاء المعتقلين من قبل في بعض القنوات التابعة للسلطة، إلا أن الأمور انقلبت رأسًا على عقب، وتحول هؤلاء إلى خونة ومتآمرين مع جهات خارجية.
ومثله مثل أنظمة عربية أخرى، فإن تهمة الخيانة من أبرز وأسهل التهم التي يمكن أن يستخدمها النظام السعودي ضد معارضيه، خاصة مع وجود دعم إعلامي في الصحف والقنوات واللجان الإلكترونية في مواقع التواصل الاجتماعي، أو ما يعرف بالذباب الإلكتروني، الذي يدعم قرارات السلطة ويروج لها.
ودشنت اللجان الإلكترونية عقب الحملة الأمنية هاشتاج "عملاء السفارات"، لوصف الحملة الأولى للاعتقالات التي تبعتها حملات اعتقال أخرى ضمت أسماء جديدة، على رأسهم حصة آل شيخ وعائشة المانع ومديحة العجروش وولاء آل شبر، وأغلب هذه الأسماء ناشطات رافضات لمنع المرأة قيادة السيارة ، قبل أن تعلن وسائل إعلام الإفراج عن بعضهن.
مثله مثل أنظمة عربية أخرى، فإن تهمة الخيانة من أسهل التهم التي يمكن أن يستخدمها النظام السعودي ضد معارضيه
وقالت سماح حديد، مديرة الحملات في منظمة العفو الدولية، في تصريحات صحفية سابقة: "نستطيع أن نؤكّد الإفراج عن عائشة المانع (70 عاماً)، وحصة آل الشيخ، ومديحة العجروش، لكننا لا نعلم الظروف التي سمحت بذلك"، فيما قالت سارة واتسون، مديرة فرع منظمة هيومن رايتس ووتش الشرق الأوسط، "إنّ حملة الإصلاحات التي أطلقها ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، تثير قلق الإصلاحيين السعوديين الحقيقيين الذين يتجرؤون على الدفاع علانية عن حقوق الإنسان وتحرير النساء".
اقرأ/ي أيضًا: دفاعًا عن حقوق المرأة أم تطلعات ابن سلمان؟!
محكوم عليهن بالصمت
كان من أبرز التقارير التي صدرت حول الاستبداد والظلم الذي يتعرض له العمل الحقوقي والنسوي في المملكة، دراسة رصد صادرة عن مرصد حماية المدافعين عن حقوق الإنسان، وهو مبادرة منظمتين غير حكوميتين هما الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، واستعرض التقرير الصادر تحت عنوان "محكوم عليهن بالصمت" في 17 كانون الثاني/يناير 2017، الأوضاع السيئة والصعوبات التي تعيشها المدافعات عن حقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية.
ويعد قانون الإرهاب من أبرز القوانين التي تستخدم ضد النشطاء والحقوقيون إلي جانب كل من قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية وقانون المطبوعات، وبالرغم من محاولة ابن سلمان الظهور كحاكم مختلف إلا أنه لم يلتفت عند تعديل قانون الإرهاب في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، للانتقادات التي وجهت له وخاصة تعريف الإرهاب، واستخدم القانون في الحكم علي نعيمة المطرود الناشطة السياسية من منطقة القطيف التي تعاني تهميشًا وقمعًا مكثفين، وتم اعتقال نعيمة في 23 شباط/فبراير 2016 وفي نيسـان/أبريل 2017 بـدأت محاكمتها، بينما صدر في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي حكم بحبسها لست سنوات وحظر سفرها ست سنوات أخرى.
أما في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 منعت الشرطة مؤتمرًا حول إسقاط وصاية الرجل على المرأة، كما حاولت نسيمة السادة وهي ناشطة على مواقع التواصل في بداية سـنة 2017، إنشـاء جمعيـة للدفـاع عـن حقـوق المـرأة تحـت اسـم "نـون"، وعبأت استمارة على الموقع الإلكتروني الخاص بذلك ولم تستلم ردًا، لمنع السعودية تكوين جمعيات نسوية غير حكومية.
وكانت دينا علي السلوم أحد الأمثلة البارزة في التقاطع بين القمع الرسمي والأسري، إذ حاولت الهرب من عائلتها لأستراليا وطلب اللجوء، لكن المملكة أجرت اتصالات بمطار مانيلا في الفلبين، إحدى محطات الرحلة، وتمت إعادتها للسعودية مرة أخرى لسفرها بدون إذن ولي الأمر. كما هناك أيضًا مريم العتيبي وهي ناشطة مناهضة لولاية الرجل، ومن أبرز الناشطات السعوديات، حاولت الاستقلال عن عائلتها، لكن والدها قدم ضدها شكوى بالعقوق، وبعد عدة أزمات اعتقلت في نيسان/أبريل 2017. وهناك آلاء العنزي، التي تعرف نفسها على أنها ناشطة حقوقية وارتبط اسمها بعدد من الحملات علي رأسها الدفاع عن دينا علي سلوم، وتم اعتقالها في 12 نيسان/أبريل الماضي، خلال توجهها للمطار بتهمة محاولة نشر صور لدينا، واحتجزت العنزي وتم إيداعها في دار لرعاية الفتيات. كما حدث ما هو شبيه مذلك ع الناشطة سمر بدوي، التي طلب منها الأمن الحضور إلى مكتب التحقيق في جدة في 15 شباط/فبراير الماضي، وكانت الأسئلة حول نشاطها الحقوقي بما فيها حمله إسقاط الولاية.
باستعراض هذا الكم المتراكم والمتفاقم من القمع الممنهج والموثق، كما المدان دوليًا، بحق الناشطات السعوديات وأية أصوات تنادي بإيقاع حقوقي حقيقي، بعيدًا عن جوقة دعاية ابن سلمان، لا يمكن القول إلا أن أوضاع المرأة السعودية قبل "إصلاحات" ابن سلمان، على سوء تلك الأوضاع حقوقيًا، كانت أفضل مما تعيشه السعوديات اليوم من قمع مستتر بأغلفة الدعاية مدفوعة الأجر "لتحرر" ابن سلمان الدعائي والقمعي.
اقرأ/ي أيضًا:
"محكوم عليهن بالصمت".. الانتهاكات ضد نساء السعودية تفضح تناقضات ابن سلمان