بعد سنة واحدة من صعوده لكرسي العرش، أعلن العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز سنة 2006 عن تأسيس "هيئة البيعة"، التي ظهرت كأحد عناوين الإصلاح السياسي للنظام الملكي المتوارث بين أبناء الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود. فلم يكن وليد الصدفة لاحقًا أن يقع تشكيل هذه الهيئة يوم 10 كانون الأول/ديسمبر، الذكرى سنة 2007 في تصادف مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان، فيما مثل إشارة واضحة حينها على انتهاج الملك الراحل لنهج يفضل العديد وصفه بـ"الإصلاحي" مقارنة بإخوته الملوك السّابقين.
أعلن العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز سنة2006 عن تأسيس "هيئة البيعة" التي ظهرت كأحد عناوين الإصلاح السياسي في المملكة
حيث إنّه للمرّة الأولى في تاريخ المملكة يتمّ إنشاء هيئة لتنظيم عملية انتقال السلطة ومسألة سدّ الشغور. في حين جرت العادة أن يتمّ تعيين وليّ العهد والمصادقة على تنصيب الملك بصفة توافقية وفق الأعراف المتّبعة داخل العائلة المالكة وبحسب التوازنات داخلها دون وجود هيئة تضبط آليات محدّدة.
اقرأ/ي أيضًا: كيف خسرت السعودية في مصر؟
هيئة بصلاحيات محدودة دون ضمانات
ينصّ الأمر الملكي المنظّم للهيئة على أنها تتكوّن أصالة من أبناء الملك المؤسّس مع إنابة كل متوفّى أو عاجز أو معتذر بتعيين من الملك. وتتكون حاليًا من 35 عضوًا غالبيتهم من أمراء الجيل الثاني، تدوم عضويتهم أربع سنوات غير قابلة للتجديد إلا إذا اتفق إخوة العضو المنتهية على ذلك وبموافقة الملك. ويرأس الهيئة منذ إرسائها الأمير مشعل بن عبد العزيز بما أنه أكبر الأعضاء سنًا من أبناء الملك المؤسس.
وبحسب نظام البيعة المُحدث، يقوم الملك باختيار المرشح المناسب لولاية العهد، على أن يعرضه على الهيئة لتصادق عليه. وفي حالة عدم المصادقة، ترشّح الهيئة وليًا للعهد. وفي صورة عدم موافقة الملك بدوره، تقوم هيئة البيعة بالتصويت بين مرشّحها ومرشّح الملك ليتمّ تعيين وليّ العهد الحاصل على أكثر عدد من الأصوات. كما يُسند للهيئة تشكيل "مجلس مؤقت" يتكون من خمسة من بين أعضائها لإدارة شؤون الدولة بصفة مؤقتة حتى اختيار ملك جديد، في صورة شغور منصب الملك وولي العهد في نفس الوقت. كما تتولّى الهيئة معاينة الشغور الوقتي أو النهائي بسبب المانع الصحّي.
لم يكن يهدف إرساء هيئة البيعة منذ البداية جعلها السلطة العليا للقرار بخصوص قرار التعيين والعزل في السلطة بدل الملك. فبخصوص تعيين ولي العهد، وهي المهمة الرئيسية لهيئة البيعة، يظلّ الملك يتمتّع بميزة حصرية فهو صاحب المبادرة بخصوص اختيار خليفته. كما يتميّز الملك بأن له حقًا أن يطلب من الهيئة ترشيح من تراه في أي وقت، في حين أنه لا يمكن للهيئة ممارسة صلاحياتها المحدودة إلا حين صعود ملك جديد للعرش أو حين وفاة ولي العهد. فإن كان يمكن للملك عزل ولي عهده وتعيين آخر في أي وقت فلا تتمتّع للهيئة بذلك حيث لا يمكن لها أن تثير مسألة ولاية العهد من تلقاء نفسها.
اقرأ/ي أيضًا:هل بدأت الحرب الباردة بين مصر والسعودية؟
حاول نظام الهيئة الموازنة بين حقّ الملك في تعيين وليّ العهد والحرص على ممارسة الهيئة لدور فاعل، وذلك من خلال ضرورة "ترشيح" الهيئة للمرشح الذي يقدمه الملك لتولي منصب وليّ العهد. ومعنى "الترشيح" في اللائحة في هذا الإطار هو الموافقة أو المصادقة، ليكون السؤال لماذا لم تستعمل اللائحة أحد هذين المصطلحين وهما الأكثر تلاؤمًا مع النظام المعتمد وذلك بدل مصطلح "الترشيح" الذي استعمل كذلك بمعناه الأصلي، أي الاقتراح؟ ربّما هو خيار شكليّ ولكنه بليغ للتأكيد على عدم التّوازي في المرتبة بين الملك والهيئة التي لا تتمتع استخلاصًا بسلطة تتجاوز سلطان صاحب العرش.
رغم وجود هيئة البيعة، يظلّ الملك بموجب النّصوص النظرية المنظّمة صاحب اليد العليا بخصوص تنظيم عملية انتقال السلطة في السعودية
ولعلّ الثغرات الواردة في نظام اللائحة تمثل دائمًا كذلك منفذًا لتفعيل هذا السّلطان. في هذا الإطار، تنصّ اللائحة مثلًا على أنه يجب تعيين ولي العهد في ظرف شهر واحد من تاريخ مبايعة الملك، ولكن دون وضع فرضيات في صورة تجاوز هذا الأجل القصير المحدّد. ففي صورة قدّم الملك مرشحًا و"لم ترشّحه" هيئة البيعة التي تتولّى بدورها في هذه الحالة تقديم مقترح قد يرفضه الملك بدوره، يتم اللجوء للتصويت للمفاضلة بين المرشحين، وكل هذه المراحل قد تتجاوز مدّة الشهر وذلك بغض النظر عن أجل عشرة أيام المحددة لتقديم كل جهة مرشحها. ففي صورة تجاوز هذا الأجل ومع عدم إمكانية البقاء دون وليّ لعهده، يسترجع الملك حقّه الحصري المطلق في تعيينه بغض النظر عن موافقة الهيئة من عدمها حيث يمكن له بالنهاية تعيين وليّ العهد الذي رفضته هيئة البيعة منذ البداية.
ويفترض تعيين وليّ العهد وفق نظام البيعة أن يتم ذلك وفق مبدأ التوافق ولكن في صورة عدم تحقّق ذلك يتم الاحتكام للتصويت بالأغلبية سواء للتصويت على مرشح الملك أو للتصويت مفاضلة في صورة تعطّل ذلك بين مرشح الملك ومرشح الهيئة، ويشير التنصيص على هذه الآلية على اعتبار الاحتكام عبر التصويت بالأغلبية هو أحد مظاهر تجسيد مبدأ الشورى. ربما هذا هو عين الإصلاح الوارد في هذه الهيئة ظاهرًا، بيد أنه دون ضمانات حقيقية. ففي صورة أن هيئة البيعة رشحت بالأغلبية وليًا للعهد يرفضه الملك، فهل تملك صلاحيات تنفيذية لتطبيق قرارها؟ هي لا تملك هذه الصلاحيات ببساطة بل يمكن للملك بموجب أمر ملكي إلغاء هذه الهيئة من الوجود من أصله. فالهيئة التي أحدثها ملك سابق قد يلغيها ملك لاحق دون شروط وفي غياب أي نوع من أنواع الرقابة القضائية أو غيرها. فهي ليست هيئة محصّنة بالنهاية.
وحتّى بخصوص صلاحيات عزل الملك أو وليّ العهد لدى الهيئة فهي تنحصر في حالة المانع الصحّي فقط، فلا تشمل الخيانة العظمى أو عدم الالتزام بمقرّرات الهيئة أو غيره. وبخصوص المانع الصحي، فهو يخضع لإجراءات معقدة إذ يستلزم وجود "قناعة" من الهيئة بعدم قدرة الملك على ممارسة سلطاته لأسباب صحية، ليتم لاحقُا تكليف لجنة بإعداد تقرير طبّي، فإن أثبت تقريرها عدم قدرة وقتية تُحال السلطة لولي العهد بصفة وقتية ريثما يُشفى الملك، وإن كانت عدم القدرة دائمة فيُبايع ولي العهد كملك للبلاد. وتقع إحالة السلطة بمجرّد "محضر إثبات" دون وجود ضمانات لتنفيذه، حيث يمكن للملك دائمًا نسخه بأمر ملكي قد يلغي الهيئة من الوجود.
وتكشف الصلاحيات النظرية المحدودة للهيئة الفاقدة لضمانات الإلزام عن هشاشة هذا الهيكل المُستحدث في الجسم السياسي السعودي، حيث يظلّ الملك بموجب النّصوص النظرية المنظّمة صاحب اليد العليا بخصوص تنظيم عملية انتقال السلطة. كما يخضع تفعيل صلاحيات هذه الهيئة، وعلى محدوديتها، لسقف مدى إرادة الشخص الحاكم ومشروعه، وهو ما تأكد وضوحًا مع تفعيل عمل هيئة البيعة بعد وفاة وليي العهد الأمير سلطان ونايف والملك عبد الله خلال العشر السنوات التالية لاستحداث هذه الهيئة. وهو ما سنتناوله في الأجزاء القادمة.
اقرأ/ي أيضًا: