27-أغسطس-2019

إنقاذ مهاجرين قبالة السواحل الليبية، من قبل إحدى فرق الإنقاذ المستقلة (Carolyn Cole)

تعرف أوروبا جيدًا أن وجود بعض سواحلها على البحر المتوسط، وضعها في مواجهة مباشرة مع الجحيم المفتوح على مصراعيه في الشرق الأوسط. 

إلا أن ما ورطها في جرائم ضد اللاجئين، هو ما انتهجته من سياسيات الشعبوية والقومية ذات الصوت العالي، التي أعلنت "حربًا على الهجرة"، كما جاء في عنوان "فورين بوليسي"، وليس حتى التعبير الأكثر حذرًا، وهو "الحد من الهجرة" الذي تصدره السياسيات الأوروبية للمهاجرين في محافلها التي ناقشت فيها الأمر.

تورطت السلطات الأوروبية في جرائم إنسانية ضد المهاجرين في البحر المتوسط، فتكلفة إستراتيجياتها لحل أزمة الهجرة، هي حياة المهاجرين

في هذه السطور، نركز موانىء المتوسط بصفتها التمظهرالجغرافي الواضح لهذا الصراع، مثالًا على ذلك: ليبيا، التي تعد بوابة رئيسية للمهاجرين الأفارقة إلى أوروبا، وهي من أكثر الحالات احتقانًا في البحر المتوسط.

اقرأ/ي أيضًا: سفينة أكواريوس وسياسات الهجرة الأوروبية.. استخفاف بالأرواح

صراع في المتوسط.. عنتريات ضد ضحايا اللجوء

تحول البحر المتوسط إلى ساحة حرب ضد اللاجئين، كان أسخنها على الإطلاق "الحرب على اللاجئين"، التي أطلقها ماتيو سالفيني، وزير الداخلية الإيطالي، صاحب النعرة الشعبوية الأكثر عنفًا اليوم في أوروبا.

سالفيني الذي تولى منصبه منذ أكثر من عام، كان قد أعلن حربًا ضد المنظمات غيرالحكومية العاملة في مجال البحث والإنقاذ في البحر المتوسط، حيث وصف عمال الإنقاذ بـ"القراصنة"، كما وصف المنظمات العاملة في هذا المجال بأنها "شريكة في جريمة الإتجار البشر".

ماتيو سالفيني
ماتيو سالفيني، أخطر الوجوه السياسية الأوروبية على حياة المهاجرين

بدأت أولى هذه المعارك في حزيران/يونيو 2018، وأدت سياسة سالفيني التعسفية إلى إغلاق الموانئ في وجه سفن اللاجئيين السريين. جاء ذلك الصدام بعد أيام قليلة من تولي التحالف اليميني، الذي يضم حزب رابطة الشمال الإيطالي، الذي يتزعمه سالفيني، وحركة النجوم الخمسة، زمام إدارة الحكومة في إيطاليا.

آنذاك، كانت سفينة أكواريوس، التابعة لمنظمتي "إس أو إس ميديترانيه" وأطباء بلا حدود الفرنسية، قد أنقذت 629 مهاجرًا. لكن سالفيني منعها من الرسو في أي ميناء إيطالي، ما اضطر إسبانيا إلى السماح لها بعد ذلك بالرسو في ميناء فالينسيا.

وفي نهاية ذلك الشهر، رست سفينة تابعة لمنظمة "لايف لاين" الألمانية في مالطا، وعلى متنها 230 مهاجرًا تم إنقاذهم، وذلك بعد معركة طويلة مع السلطات الإيطالية أيضًا.

ثم في أواخر العام الماضي، 2018، اضطرت سفينة أكواريوس، أن تتوقف عن العمل، بسبب ما وصفه مدير عام منظمة أطباء بلا حدود الفرنسية، بـ"الحملة المنظمة للتشويه وإساءة السمعة، والإعاقة عن العمل"، من قبل الحكومة الإيطالية.

واستمرت سياسة غلق الموانئ أمام سفن الإنقاذ في المتوسط، حيث كانت إحدى أشهر تلك الإيقافات ما حدث في 22 آب/أغسطس 2018  مع سفينة ديتشيوتي، بعد خمسة أيام من بقائها في البحر قرب ميناء كاتانيا، قبل أن يُسمح لـ29 قاصرًا على متن السفينة بدخول الميناء، فيما منع الباقون من البالغين، الدخولَ، إلا في 25 من نفس الشهر. وبسبب هذه القضية، خضع سالفيني للتحقيق.

وفي كانون الأول/ديسمبر 2018، تم إجبار السفينة "أوبن آرمز" على الانتظار في البحر هي الأخرى، وذلك أثناء احتفالات عيد الميلاد، وكان على متنها عدد من المهاجرين الذين هبطوا في يوم 28 من نفس الشهر، في ميناء الجزيرة الخضراء، بعد أن تلقت رفضًا بالرسو في إيطاليا ومالطا وفرنسا.

وفي العام الجاري، بدأ صراع المتوسط في أول العام، وتحديدًا في كانون الثاني/يناير 2019، حين رفض السفينة "سي وتتش 3"، في أي ميناء. لكن بعد انتظار دام عدة أيام بالقرب من سواحل سيراكوزا، تم السماح للسفينة بالرسو في ميناء كاتانيا، وتم التحقيق مع سالفيني أيضًا في تلك القضية، ومعه رئيس الوزراء كونتي، ووزير النقل دانيلو تونينيلي. لكن سرعان ما قام الادعاء بحفظ التحقيق في القضية.

وكانت السفينة "سي ووتش 3" محور صدام آخر في حزيران/يونيو الماضي، بعد أن ظلت عالقة في المياه الدولية 17 يومًا، وعلى متنها 40 مهاجرًا، قبل أن تتمكن قائدة السفينة، كارولا راكيتي، من كسر الحظر بإرساء السفينة في ميناء لامبيدوزا. وحينها وصف سالفيني عمال الإنقاذ بـ"القراصنة".

سفينة أكواريوس
سفينة أكواريوس للإنقاذ، توقفت عن العمل بسبب إعاقات السلطات الأوروبية المتكررة

وحينها، ألقي القبض على راكيتي في إيطاليا، لكن قاضر الدرجة الأولى في القضية التي اتهمت فيها، أمر بإطلاق سراحها بعد 48 ساعة من الاحتجاز.

"عملية صوفيا".. وثائق تكشف المستور

العملية صوفيا، هي مجموعة عسكرية بحرية تابعة للاتحاد الأوروبي، تم تأسيسها عام 2015 بهدف منع مهربي البشر عن طريق البحر. ومنذ إنشائها قبل نحو أربع سنوات، أنقذت العملية صوفيا 49 ألف شخص في المتوسط. لكن يبدو أن هذا لم يكن الهدف الأساسي من وجودها.

الهدف الأساسي من العملية صوفيا، التي تتضمن أكثر من 10 قطع بحرية وجوية من 28 دولة أوروبية، هي تعطيل شبكات تهريب البشر قبالة السواحل الليبية، لمنع تدفق المهاجرين السريين عبر البحر إلى الأراضي الأوروبية.

لكن مجموعة من الوثائق التي تم تسريبها من جهاز خدمة العمل الخارجي الأوروبي، حصلت عليها صحيفة بوليتيكو الأمريكية، كشفت عن المستور.

وفقًا للوثائق، ففقد اعترف قادة العملية صوفيا، بأن نجاحها كان محدودًا بموجب ما أُتيح لها من سلطة للعمل، إذ لا يمكنها العمل إلا في المياه الدولية فقط، ولا يمكنها العمل في المياه الليبية الإقليمية، ولا على السواحل الليبية، حيث تنشط شبكات التهريب. فضلًا عن أن العملية صوفيا، كما ورد في الوثائق الداخلية، تعاني نقص تمويل، وقلة خبرة وتأهيل للعاملين فيها.

وتكشف الوثائق أيضًا، إدراك الاتحاد الأوروبي لأن سياساته ساهمت في مضاعفة خطورة البحر على المهاجرين، وأنه مع ذلك اختار الاستمرار في تلك السياسات.

ويعترف المسؤولون داخليًا، بأن بعض أفراد خفر السواحل الليبيين، الحاصلين على التمويل والتدريب من الاتحاد الأوروبي، يتعاونون مع شبكات التهريب، وبعلم الاتحاد الأوروبي!

ومن الانتقادات الموجهة للعملية صوفيا، أنها عملية ذات أجندة سياسية، تحولت إلى أداة للإعادة القسرية، وأيضًا لإضفاء الشرعية على المليشيات المسلحة التي ترتدي زي خفر السواحل الأوروبية، كما نقلت بوليتيكو.

جدير بالذكر، أن العملية صوفيا سميت بهذا، على اسم طفلة ولدت على متن سفينة إنقاذ تابعة للاتحاد الأوروبي. لكن صوفيا، العملية العسكرية، تمثل تجليًا للخلل السياسي العميق في التعامل مع الأزمة، حيث في الواجهة  تبدو وكأنها محاولة استباقية لإنقاذ الأرواح، بينما في الحقيقة هي محاولة لمنع المهاجرين بأي ثمن حتى لو كان التضحية بأرواحهم في البحر، كما حدث على متن السفينة "أوبن آرمز"، منتصف الشهر الجاري، إذ أدى اليأس الذي تملك ركابها إلى القفز في البحر في محاولة بائسة للوصول إلى ميناء لامبيدوزا.

إستراتيجية جعل البحر أكثر خطورة وجثثًا!

كانت من الإستراتيجيات التي اتبعتها العملية صوفيا منذ إطلاقها: حملة لتدمير القوارب التي يستخدمها المهربون، ومراقبة جوية واسعة النطاق، وتدريب وتمويل خفر السواحل الليبي الموحد حديثًا. لكن نجاح هذا النهج كان محل خلاف كبير.

فقد أدت إستراتيجية تدمير القوارب الخشبية التي يستخدمها المهربون لتجنب إعادة استخدامها إلى تعطيل أعمال الهريب، لكن بتكلفة بشرية كبيرة.

وعندما فقد المهربون الليبيون قواربهم الخشبية، بدأ الكثير منهم يعتمدون بدرجة أكبر على قوارب مطاطية أصغر حجمًا وأقل تكلفة، غير أنها أكثر خطورة من القوارب الخشبية، وأقل قدرة على الوصول للشواطئ الأوروبية، ما أدى بالمهربين لإنزال المهاجرين في المياه الدولية، ليتخذوا طريقهم في البحر عومًا! 

وفي تقرير سُرّب عام 2017، قدم مسؤولو العملية صوفيا اقتراحًا غير معتاد أبدًا: منح العملية إذنًا بتعليق مسؤوليات الإنقاذ من أجل التركيز على عمليات مكافحة التهريب، إذ جاء في التقرير: "يجب إعطاء الأولوية للسماح بإعفاء العملية صوفيا من عمليات الإنقاذ مؤقتًا، عند القيام بنشاط بمكافحة عمليات التهريب في المياه الدولية".

من جهة أخرى، تغافل الاتحاد الأوروبي عن عمد، بعد التجاوزات الأخلاقية في سياساته المتعلقة بالتعاون مع خفر السواحل الليبية، فقد أشار تقرير إلى أن بعض العناصر في السلطات المحلية الليبية، ضالعة في أنشطة التهريب، وفقًا لشهادات أشخاص تم إنقاذهم.

كما أشار التقرير إلى أن إستنتاجات مماثلة تم الإبلاغ عنها عدة مرات من قبل خفر السواحل الإيطالي والعملية صوفيا، حيث قال أحد الشهود إن خفر السواحل الليبية كانوا بحاجة للمال لأنهم لم يحصلوا على رواتبهم منذ ثمانية أشهر، لذا تعاونوا مع المهربين، بل رافقوا القوارب المطاطية حتى المياه الدولية.

انتهاكات لحقوق الإنسان

قال تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، نُشر في كانون الثاني/يناير الماضي، أن دعم أوروبا لخفر السواحل الليبية، ساهم في تفاقم حالات الاحتجاز التعسفي، وأن الأشخاص الذين اعترضتهم السلطات الليبية "يواجهون ظروفًا غير إنسانية ومهينة وخطر التعذيب والعنف الجنسي والابتزاز". كما أدانت منظمة العفو الدولية الظروف التي يُحتجز فيها المهاجرون في ليبيا. 

وفي رسالة مفتوحة نشرتها هيومن رايتس ووتش في وقت سابق من هذا الشهر، حذرت 50 من منظمات الإغاثة الكبرى، من أن "قادة الاتحاد الأوروبي قد سمحوا لأنفسهم بالتواطؤ في المأساة التي تتكشف أمام أعينهم".

مراكز احتجاز المهاجرين في ليبيا
الاحتجاز التعسفي للمهاجرين في ليبيا

وفي عام 2016، قال مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، إن "المهاجرين معرضين بدرجة كبيرة لخطر الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الاحتجاز التعسفي في ليبيا".

وفي حزيران/يونيو 2018، فرضت الأمم المتحدة عقوبات على ستة رجال بتهمة التهريب وانتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك قائد خفر السواحل في مدينة الزاوية غرب ليبيا. وتم العثور على عدد من المسؤولين تحت قيادته ممن تم تدريبهم بواسطة العملية صوفيا.

بالنتيجة، يمكن القول إن هناك استخدام سياسي للقضية الإنسانية للهجرة، تتورط فيه الجغرافيا كما يتورط فيه الاقتصاد، وكذا الهوس الأوروبي بالمحافظة على الهوية ومستوى الرفاه الاجتماعي بعيدًا عن المهاجرين ومشكلاتهم، التي نفس الدول التي تحارب هجرتهم، ساهمت في صناعتها.

يمكن القول إن هناك استخدام سياسي للقضية الإنسانية للهجرة، يتورط فيه الهوس الأوروبي بالمحافظة على الهوية ومستوى الرفاه الاجتماعي

وفي حين تحاول أوروبا حل المشكلة بعيدًا عنها، تعيدها السواحل إلى قلب الحدث في كل مرة. ويدفع الفاتورة في كل مرة، المهاجرون، الفارين من مأساتهم في بلدانهم، إلى المأساة في عرض البحر أو مراكز الاحتجاز على السواحل.