تأخذ ظاهرة الهجرة غير النظامية أبعاد جيوسياسية، بما تمثله من انعكاسات أمنية، تترجم في شكل مخاوف محلية وإقليمية.
وفقًا لتقارير المنظمات الدولية، فإنه من بين 78372 مهاجر وصلوا أوروبا خلال سنة 2018، انطلق 20859 منهم من السواحل الليبية
ولطالما ارتبط هذا النشاط بمختلف أشكال الجريمة المنظمة العابرة للحدود، وشبكات تبييض الأموال وعصابات الاتجار بالبشر، كما شكل ويُشكل مصدر تمويل الجماعات المسلحة، الجهادية وغيرها، في منطقة الساحل الأفريقي والضفة البحرية الليبية.
اقرأ/ي أيضًا: أسواق نخاسة في ليبيا لبيع المهاجرين.. والثمن أقل من 400 دولار!
أمام هذه الإرهاصات مجتمعة، تتشكل روابط سياسية تتسم بكثير من التناقضات وعدم التكافؤ، بين شمال البحر الأبيض المتوسط وجنوبه، وأدوار تحددها موازين القوى، فمن منطق الدركي في عين الشمال تكون رهاناته على دول الجنوب، في حين للجنوب رهاناته داخلية والخارجية، اجتماعية واقتصادية وسياسية.
من ليبيا.. مسلخ إنساني بمصادقة أوروبية!
منذ زمن جماهيرية معمر القذافي، كان ملف الهجرة غير النظامية في ليبيا، ورقة ضغط استخدمها النظام وقت ذاك في رسم علاقاته ببلدان حوض البحر المتوسط. ولطالما كان التهديد والابتزاز بإفلات زمام الوضع أمام موجات النزوح إلى الضفة الشمالية من جنوبها، يرسم حول ليبيا الانطباع على أنها الحصن المنيع الذي يصد الآلاف من المهاجرين نحو أوروبا.
سقوط نظام معمر القذافي، واتساع دائرة الربيع العربي، تركت مخاوف لدى العواصم الأوروبية، ترجمتها إيطاليا بالإسراع إلى التعامل مع المجلس الانتقالي الوطني الليبي حتى قبل تنصيبه رسميًا. كيف لا وليبيا أقرب بوابة إلى الجزر الإيطالية، مثل: لامبيدوزا وصقلية.
بلغة الأرقام، وكما تشير تقارير المنظمات الدولية، أنه من بين 78372 مهاجر بلغوا أوروبا خلال سنة 2018، انطلق 20859 منهم من السواحل الليبية. وتؤكد إحصائيات أنه بلغ تعداد المهاجرين العابرين عبر بوابة ليبيا، 650 ألفًا خلال الخمس سنوات الأخيرة.
ومع ذلك يمثل الموسم الماضي نجاحًا كبيرًا لحكومة جوزيبي كونتي، ومعه الاتحاد الأوروبي ككل، في إدارة القضية، لما عرفه من انخفاض نسبي في معدلات الهجرة.
ويرجع هذ النجاح بالأساس إلى التعاون المبرم وحكومة فائز السراج المعترف بها دوليًا، بما يسمح لقوات السواحل الايطالية بالتدخل في مجال المياه الدولية والليبية، وإجراء تدابير لتعزيز مراقبة الحدود، بما في ذلك: إنشاء قوة بحرية أوروبية لمنع السفن من مغادرة السواحل الليبية، وتدمير زوارق المهربين.
هذا بالإضافة لزيادة الموارد المخصصة لعمليات مراقبة الحدود، فضلًا عن إنشاء مخيمات للاجئين على الأراضي الليبية تحت رعاية الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية، وتكوين عناصر ليبية في مجال حقوق الإنسان والرعاية والإغاثة الإنسانية.
في 18 أيار/مايو 2015 تم إطلاق عملية "صوفيا" بقيادة إيطاليا والاتحاد الأوروبي، وبتمويل من صندوق الأوروبي، وهي عملية عسكرية بحرية وجوية، تهدف إلى صد رحلات المهاجرين القادمين من السواحل الليبية.
هذه العملية نظر إليها العديد من المراقبين، باعتبارها إزاحةً للحدود الأوروبية إلى الأمام، في الوقت الذي ركز فيه ماتيو سالفيني، وزير الداخلية روما، جهده في منع سفن الإغاثة والمساعدة من الرسو في الموانئ الإيطالية، في إجراءات احتفت بثمارها الحكومة المذكورة، على حساب ارتفاع عدد الموتى والغرقى في السواحل المتوسطية.
وفي ليبيا، يسمح الوضع الداخلي لأوروبا بتنزيل "حلها الأمني"، متمثلًا في تكديس المهاجرين السريين داخل مخيمات الاحتجاز الجماعي، التي أعلنت منظمات إنسانية مثل الهلال الأحمر الدولي عدم تمكنها من الوصول إليها، أي إلى هذه المخيمات.
يشار إلى أن غالبية هذه المخيمات تقع بالقرب من ساحات الاقتتال، ومعظمها بات تحت سيطرة مليشيا مسلحة غير خاضعة مباشرة لسلطة الطرفين المتقاتلين في ليبيا، ما يعني تحولها لمسلخ بشري، كل شيء مباح فيه من التجويع إلى التعذيب إلى الاستعباد وتجارة الرق، كما كشفت ذلك CNN في تحقيقها الشهير سنة 2017.
كل هذا بمباركة أوروبا، أو على الأقل مساهمتها بنيويًا في تكريس هذا الوضع، وسياسيًا بفرضها على منظمات الإغاثة إنزال المهاجرين الذي يتم إنقاذهم بالمرافئ الليبية، كما كشفت عن ذلك القضية الأخيرة للربانة الألمانية.
الجزائر عامل استقرار جيوإستراتيجي
بموقعٍ جغرافي وسط الضفة الجنوبية للمتوسط، وشريط ساحلي يمتد على طول 1200 كيلومتر، وبحدود جنوبية بطول ستة آلاف كيلومتر، جعل هذا من الجزائر معبرًا هامًا ومحطة رئيسة في حركة التنقل من الجنوب إلى الشمال، خاصة الهجرة غير النظامية، والتي تزيد كثافتها وتنمو حركيتها ارتباطًا بالمحيط الإقليمي للجزائر، والجوار الجنوبي للبلاد، الذي يطبعه عدم استقرار سياسي وهشاشة الوضع الأمني.
وتُقدر التقرير الصادر عن اللجنة الأوروبية المهتمة بشؤون اللاجئين، عددهم خلال النصف الأول للسنة الماضية بـ100 ألف لاجئ عبروا البلاد، بينما تقف تقديرات وزارة الداخلية الجزائرية عند حدود 400 ألف خلال الخمس سنوات الأخيرة، بمعدل 400 إلى 500 لاجئ يوميًا. كما تحصي نفس المصادر حوالي 23 جنسية أفريقية مختلفة، تتراوح بين دول منطقة الساحل وإفريقيا الغربية والوسطى.
من جانبه وصف فيه حسين قاسمي، مسؤول في وزارة الداخلية الجزائرية، عملية الهجرة تلك بكونها "أكثر من بحث فردي على مسلك إلى دول الشمال، بل انتقال سكاني ونزوح جماعي"، الأمر الذي اعتبره قاسمي "يشكل خطرًا على الأمن القومي، على المدى المتوسط والبعيد"، هكذا تتبين لنا عقلية الحكومة في مقاربة المعضلة، وتفسر على ضوء الخطاب الرسمي عمليات الترحيل الجماعي، كأسلوب معالجة نهائي، ووفق مقاربة أمينة بحتة.
ولا يختلف ذلك عن المقاربات المقترحة من الاتحاد الأوروبي، والتي تقدم تعاونًا أمنيًا وماليًا لتقييد الهجرة السرية، عبر إقامة مرافقة أمنية لمراقبة الحدود، وتفكيك شبكات التهريب الضالعة في الأمر.
كما حاولت بعض العواصم الأوروبية استمالت الجزائر بإقامة مراكز ومخيمات على مستوى أراضيها، ويتم عبرها تنقية العناصر التي تعتبرها أوروبا "أكثر تأهيلًا وصلاحًا"، فيما يسمى بالهجرة الانتقائية، وذلك مقابل الاستفادة من الدعم المالي والدعم السياسي.
لكن الجزائر تمسكت بما اعتبرته سيادة كاملة في مراقبة الحدود، رافضة أي مقترح أوروبي للتعاون الأمني في هذا الصدد، برغم ما تشكله مراقبة الحدود من استنزاف لطاقات البلاد البشرية والمالية.
كما قابلت بالتحفظ عرض استفادة من الصندوق الخاص للهجرة الذي وضعه الاتحاد الأوروبي، بحجة أن الغرض من هذه المساعدة ليس إلا "مطية للابتزاز السياسي"، بعيدًا عن الترويج الحقوقي له بإنشاء مراكز ومخيمات لا تعدو أن تصير "سوق العبيد" البقاء فيه للأكثر ملاءمة لاحتياجات دول الشمال.
المغرب.. شريك إستراتيجي وليس شُرطي
أهمية الجزائر كدولة عبور لحركة الهجرة السرية، لا تزيد عنها سوى المغرب، الذي يحتل الموقع الأقرب لأوروبا، خلافًا عن باقي دول المغرب العربي، هذا ما يجعل منه البوابة الرئيسية نحو أوروبا، والوضع الاستثنائي لحدوده الشرقية، وغير المرسومة بدقة مع الجارة الجزائر، جعله جاذبًا لموجات اللجوء من الجنوب للشمال.
هذا بالإضافة إلى انفراد المغرب بالتوفر على حدود برية مع أوروبا، بمدينتي سبتة ومليلية المحتلتين شمال البلاد. هكذا يمثل محور طنجة/أصيلة نحو كاديس، ممر الحسيمة/الناظور نحو مالقا، ومضيق جبل طارق نحو جنوب إسبانيا؛ ساحة تنشط فيها منظمات تهريب البشر المعروفين محليًا بالـ"حراكة".
التضييق الأخير على السواحل الليبية من طرف الإيطاليين حوّل المغرب إلى قبلة المهاجرين نحو أوروبا. وحسب الأرقام الرسمية؛ أغلب هؤلاء المهاجرين من شباب مغاربة ومن دول أفريقيا، بالإضافة إلى سوريين فارين من الحرب.
كما يتحدث تقرير المنظمة الدولية للهجرة لسنة 2017 عن 28300 مهاجر وصلوا إلى جنوب إسبانيا عبر البوابة المغربية، 78% عبر البحر و22% عبر ممرات مليلية وسبتة.
إدارة ملف الهجرة السرية بين المغرب والاتحاد الأوروبي يبقى متباعد في الرؤية والمخارج، رغم التعاون المشترك والإقرار بضرورة مكافحة الظاهرة. ففي وقت يلتزم الاتحاد الأوروبي بالطرح الأمني ومقاربة قمعية كسبيل لمعالجة الأزمة، يخطو المغرب خطوات كبيرة في إدارة الهجرة السرية، بتحوله في السنوات الأخيرة من دولة عبور إلى دولة استقرار "قسري" للمهاجرين.
جعل هذا التحوّل، المغربَ، يُعدّل في منظوماته القانونية المتعلقة بالهجرة والإقامة باتساق مع المعاهدات والالتزامات الدولية، والشروع في تسوية وضعية المهاجرين غير الشرعيين على أراضيه، حيث منح منذ مطلع سنة 2014 ما يفوق 50 ألف بطاقة إقامة صالحة لعشر سنوات قابلة للتجديد، بالإضافة إلى محاولات الإدماج غير الناجعة حتى الآن.
هذه قفزة الكبيرة كرست موقع المغرب كشريك في المعادلة الأورومتوسطية، في وضعية تفرض تبادل رؤى حول كيفية التعامل ومعالجة الهجرة غير النظامية وفق المصالح المشتركة بينه وبين الاتحاد، وليس عبر قرار أوروبي منفرد قائم على السياسية الأمنية، التي تصبو إلى تقزيم دور المغرب في شرطي أو سجن للمهاجرين، مستخدمة في ذلك الابتزاز السياسي والضغط الاقتصادي عبر بوابة اتفاقيات الصيد البحري والمواد الفلاحية، التي تعد أبرز صادرات البلاد السوق الأوروبية.
وفقًا لتقرير المنظمة الدولية للهجرة لسنة 2017، فإن 28300 مهاجرًا وصلوا لجنوب إسبانيا عبر البوابة المغربية، 78% عبر البحر و22% عبر سبتة ومليلة
في النهاية يمكن القول إن الهجرة محور أساسي في العلاقات داخل الحيز الأورومتوسطي، وهي علاقات لا يمكن كما يبدو إلا أن تكون قائمة على أساس يحمي المصالح المشتركة لضفتيه، وتقتضي تجاوز الخلافات والتناقضات بين الشركاء، والنظرة الاستعلائية والإقصائية الأوروبية تجاه شمال أفريقيا.
اقرأ/ي أيضًا:
المهاجرون الأفارقة في الجزائر.. شقاءٌ وأحلام
رحلة الموت إلى أوروبا.. 150% زيادة في أعداد وفيات المهاجرين في عرض المتوسط