24-أغسطس-2019

آرنون غرونبورغ وجورج دييز وصامولي شيلكه وسيندري بانغنستاد (الترا صوت)

إعداد: يوسف أشرف علي وسفيان البالي

"السيناريو الأسوأ هو أن تتحول أوروبا إلى ولايات متحدة أوروبية"، يفصح لـ"الترا صوت" صاحب كتاب "هاربون من الموت"، فولفغانغ باور، الصحفي والمراسل الألماني المختص في قضايا اللاجئين. يسترسل باور موضحًا: "أي كيان أساسه مهاجرون من جغرافيات مختلفة، ينشئون مجتمعاتهم الخاصة ويعيشون داخلها"، معيدًا سؤال الاندماج إلى الواجهة مجددًا. 

 كان الاعتقاد بأن الإنترنت ستخلق عالمًا منفتحًا لكن الآن نرى كيف أن الديكتاتوريات واليمين المتطرف وجد ضالته في السوشيال ميديا

يعبر فولفغانغ باور من عمق مخاوف أوروبا العصر الحالي، حيث يلتقي صراع المراكز والهوامش على جغرافيا الشمال، وتنبلج حالة من الاتزان السياسي والاجتماعي المختل، داخل اتحاد هو قاب قوسين من تحول راديكالي، أو تركيز سطوة أحد الجانبين: النموذج اللبيرالي والمد اليميني الشعبوي.

اقرأ/ي أيضًا: "اللجوء صناعة غربية".. حوار مع الروائي الفيتنامي فييت ناثه نغوين 

يأتي حديث باور المذكور على هامش حوار مطول أجريناه معه هو ومجموعة من أسماء أخرى اشتغلت على القضية: الروائي الهولاندي آرنون غرونبورغ، والصحفي الألماني جورج دييز، وصامولي شيلكه، الباحث الفنلندي، إضافة إلى عالم الأنثروبولوجيا النرويجي سيندري بانغنستاد، في محاولة للتوصل إلى إجابة على سؤال: ما مستقبل أوروبا وجيرانها؟  

والجيرة هنا بمعنى "الاستجارة"، أي من استجاروا بأوروبا من هول الأوضاع في بلدانهم الأم، وغدو عصب الحيوية السياسية والاجتماعية بها، ووضعهم الاستثنائي مغذي لخطاب عنصري مستعاد من أزمنة ما قبل الحرب.


  • حالة مفرطة من الانفتاح الاجتماعي، أدّت بالعالم إلى ﻔﻘﺪﺍﻥ ترف ﺍﻟﺨﺼﻮﺻﻴﺔ الشخصية. ﻫﻞ ﻫذا هو العامل المسؤول عن سيادة دعوات ﺍلاﻧﻐﻼﻕ وﺭﻓﺾ ﺍﻟﻐﺮﻳﺐ؟

أرنون غرونبورغ: لا، لا أظن ذلك، لقد ضحى الناس طواعيةً بخصوصيتهم، لشعور ما بالأمان أو لخديعة الشهرة، أو حتى ما يمكن اعتباره موضة حسب المفهوم الحالي.

جورج دياز: ليس الأمر حول فقدان الخصوصية أكثر من كونه نموذجًا عولميًا يفرض على جميع الدول باختلاف طبيعتها، ودون أدنى نقاش حقيقي حول تبعات تطبيقه في كل دولة.

في عصرنا الحالي يقدس السوق تقديس الدين، هذا ما يخلق استثارة ضده من اليمين واليسار. واليمين المتطرف الآن هو الأكثر ظهورًا، والأكثر نجاحًا في إيصال رسالته العدوانية الممتعضة من اللاجئين والمهاجرين.

أرنون غرونبورغ

الروائي الهولاندي آرنون غرونبورغ

سيندري بانغنستاد: دائمًا كان الاعتقاد اللطيف بأن وسائل التواصل الاجتماعي والعولمة، في ظروف غامضة وبشكل ما، ستخلق عالمًا منفتحًا متصلًا وديموقراطيًا، عالمًا يوتوبي وهمي.

لكن بدلًا من ذلك، شاهدنا كيف أن تحالفات نخبة الشركات والأنظمة الديكتاتورية وجدت سبيلًا لتحديد العولمة والسوشيال ميديا بحدودها الخاصة.

صامولي شيلكه: أصبح للانغلاق ورفض الغريب مصداقية جديدة، مع أنهما عاملان وُجدا باستمرار على مر تاريخ البشرية. ولا بد أن نلاحظ أن الدعوة للانغلاق هذه تظهر كمبدأ سياسي وأخلاقي، قوميًا كان أو دينيًا أو عرقيًا، في لحظة يعيش فيها الكثيرون أنماط حياة منفتحة ومعقدة بالفعل.

بمعنى أن هناك رد فعل على واقع الانفتاح، لكني لا أعتقد أن الانفتاح مبالغ فيه، بل إنما هو واقع لابد منه في ظروف عالمنا الحالي، سواء قبلناه أم لا.

  • هل الصوابية السياسية في التعامل مع نقاشات الهوية والقومية سبب فيما تواجهه أوروبا الآن، أي الاختيار بين التعصب القومي والتمزق الهوياتي؟

غرونبورغ: التمزق أو التفتت الهوياتي هو جزء من الحياة وجزء من التاريخ. الميتون فقط هم من لا يمرون بمراحل تمزق هوياتي. والقصد هنا عملية الإحلال والتجديد ودخول هويات جديدة تؤدي إلى إحداث هزة اجتماعية في النسيج العام.

دييز: لم يكن هنالك حجب لهذه النقاشات. ما يحدث الآن هو تغير في استقبال الجمهور العام للمحاولات والدعاوى التي تحث على تجاهل دروس الحرب العالمية الثانية. 

فمنذ مطلع التسعينيات وإبان حقبة إعادة توحيد ألمانيا، كان هنالك نقاش مفتوحة حول قضايا الهوية من زاوية معادية للمسلمين. والقومية لم تكن أبدًا غائبة، الآن تعود الموجة المحافظة لاجتياح أوروبا التي لها تاريخ معاناة من فخر القومية والتعصب.

بانغنستاد: ما يحدث الآن هو تكرار  لنمط تاريخي عرفه المؤرخ الفرنسي، بيير روزانفالون، كنتيجة لانفجار هوة اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية، والتي تفاقمت مع سيادة النموذج النيوليبرالي بداية الثمانينات بقيادة كل من مارغريت تاتشر ورونالد ريغان، والذي قام على سلسلة من الأزمات المتكررة، منحت وقتذاك صفة المشروعية باسم الديموقراطية الليبرالية الأوروبية.

بنفس الكيف يخلق الآن شبح الهجرة وإرهاب السلفية الجهادية، كعاصفة تمهد لانتشار وتقدم اليمين المتطرف في أوروبا. طامة أن النخب النيوليبرالية المحافظة متورطة في موجة رهاب الأجانب، لكنه أمر تم الترتيب له منذ عام 1989.

شيلكه: كل ما زاد الكلام في الهويات أخذ منطقها مكانًا أكبر داخل النقاشات السياسية. ونحن نعيش عصر زيادة سياسات الهوياتية، ليس لأنها كانت محجوبة من قبل، لكن لأن في الماضي كان لدى حركات سياسية اقتصادية مثل الاشتراكية المزيد من القوة والمصداقية.

الآن في مرحلة ما يسمى بالليبرالية الجديدة من مسار الرأسمالية التاريخي، نجد أن الأمل في الخلاص الجماعي أصبح صعبًا للغاية، مع ازدياد أمل الخلاص الفردي. وسياسات الهوية تتناسب والنزعة الفردية في الليبرالية الجديدة، و تسمح للفرد أن يحس بالاندماج ويعرف من "نحن" ومن "هم" في غياب أمل واقعي لعالم أفضل.

  • أي تأثير اجتماعي لموجة الهجرة الحالية، وهل البريكست مثلًا شكل من أشكاله؟ 

غرونبورغ: الوافد الجديد سيغير من ثقافة المضيف بالطبع، وثقافة المضيف ستغير من الوافد الجديد، هذا هو الحال دائمًا. لكن السياسات الهوياتية هي قوة سلبية تعمل في الاتجاه المعاكس، أعني أنه وفقًا للسياسات الهوياتية المتبعة رسخت فكرة التأويل المتصل بكل هوية، بحيث أصبح هنالك تساؤل حول كل حديث أو فعل من المهاجر يربط ذلك الحديث أو الفعل بهويتهم المميزة فقط دون اعتبارات أخرى.

سيندري بانغنستاد

عالم الأنثروبولوجيا النرويجي سيندري بانغنستاد

دييز: المهاجرين/اللاجئين سيغيرون من المجتمع، وهذا سيؤدي إلى خلافات من المفروض تناولها وتسويتها عن طريق القنوات السياسية ومن خلال توفير نموذج مجتمعي منفتح يوفر أدوات الدمج، وبالتالي إقصاء أي فرص لطرح وجهات نظر تفضي إلى إثارة الاحتقان، التقهقر والأزمات.

شيلكه: لم يكن المهاجرون سببًا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. غير أن المفارقة الأساسية لدول أوروبا الغنية أنها تحتاج إلى الهجرة لأسباب مختلفة، وفي نفس الوقت الهجرة تثير القلق عند الكثير، لأنها تشارك في تغير مجتمع هو في حالة تغيرات اجتماعية سريعة أصلًا.

الهجرة هنا تزيد التغيير، وتصبح رمزًا لكل التغيرات المختلفة المقلقة أحيانًا والمفرحة في أحيان أخرى. فضلًا عن ذلك، فالمجتمعات الأوروبية ليس لها تاريخ في ضم وافدين من مختلف أنحاء العالم كما هو الحال في أمريكا.

  • نلحظ إقبالًا كبيرًا لوسائل الإعلام الأوروبية على تغطية أحداث من قبيل مهاجمة المسلمين مسيرات المثليين في بلدان أوروبيا وحالات التحرش والعنف الأسري، ما يدفع للتساؤل: هل الخلفية الثقافية والدينية والقيمية للمهاجرين فعلًا عائق أمام  اندماجهم، أم هو استهداف إعلامي أيديولوجي؟

شيلكه: الافتراضان ليسا بديلين، والواحد لا ينفي الآخر. لكن من المهم أن نسأل على سبيل المثال: كيف حدث أن المثلية الجنسية التي كانت تعتبر "مرضًا" في أوروبا حتى سبعينات القرن الماضي، أصبح الاعتراف بها، وبتلك السرعة، جزءًا شرعيًا من القيم الغربية؟

ثم كيف حدث أن في كثير من بلاد المسلمين كانت ممارسة الجنس بين الرجال وكذلك بين النساء تعتبر من المعاصي، لكن لا تشكل أي إحساس بالخطر للمجتمع والدين، ثم في فترة قصيرة جدًا، بدأ الكثير من المسلمين يعتبرون ما يسمى بـ"الشذوذ الجنسي" من أكبر المحرمات وخطر وجودي. هناك تغيرات غريبة لا نفهمها بالتأكيد حتى الآن!

  • لنتطرق إلى حالة أخرى: ماذا عن ردود الفعل التي أثارتها قوانين ﻣﻨﻊ ﺍﻵﺫﺍﻥ ﻭﺍﻟﻨﻘﺎﺏ في ﺒﻌﺾ ﺍﻟﻤﺪﻥ السويسرية؟

باور: كأي شعب من سكان الجبال، فالسويسريون محافظون، ولكنهم أيضًا ديموقراطيون للغاية. لذلك أنا أرى تلك التصويتات تمثل رأيهم، وقد يكون الأمر حقًا مزعجًا من وجهة نظرهم كما قد يزعج بعض المصريين صوت أجراس الكنائس وقرارات بناء الكنائس الجديدة.

في سويسرا لديهم قواعد ديمقراطية راسخة، وكل قضية يمكن الاقتراع عليها، حتى الأزمات الصغيرة من قبيل طريقة جمع القمامة من الشارع. تجمع الأصوات ثم يتحول الأمر لاستفتاء عام، تكون الدولة فيه معنية بحماية نتائجه أيًا كانت رؤية الحكومة تجاه القضية المتناقش عليها.

بانغنستاد: النظام السياسي في سويسرا هو حالة منفردة، وما يسمى بقرار "حظر المآذن" في عام 2009، يجب أن ينظر إليه من ذلك المنظور، فقد قرر اليمين الشعبوي في البلاد، وهو الأكثر انتشارًا في المناطق المتحدثة بالألمانية والمناطق الريفية، أن يجعل من المسألة جسرًا لنشر أفكارهم الرافضة للغريب.

تجدر الإشارة إلى أن المساجد ذات مآذن كانت نادرة في سويسرا على كل حال، فقط بعضها القليل والمعروف. واليمين انتهز الفرصة ليخلق من ذلك قضية انقسمت حولها الدولة والمواطنين على حد سواء.

لاحقًا عرفنا من الاحداث الراهنة كيف أن اليمين المتشدد في أوروبا خبير في إيجاد مسببات للشقاق، عن طريق السياسات الاستقطابية والتحريف والافتراء. ولديه قدرة عملية على تقسيم البلاد إلى أشخاص ينتمون لها و"غرباء يجب إلقائهم بالخارج"، خارج الحدود المتخيلة لـ"الدولة" و"الوطن" أو "الأمة".

  • ما رأيكم في اقتراح القس البريطاني القائل بإيجاد منظومة قانونية مزدوجة لإدارة هذا الاختلاف: واحدة غربية، وأخرى تأخذ من الخلفية الثقافية الإسلامية قاعدة لتشريعاتها؟

غرونبورغ: لا بالطبع، أفضل قانونًا واحدًا للجميع. أنا مع الحرية الدينية، لكن هذه الحرية تتحقق فقط بفصل الدولة عن الدين.

دييز: أصل الديمقراطية هو أن القانون يطبق على الجميع، وهذا ما تأسس عليه المجتمع المنفتح، أي شخص يود تغير ذلك فهو يسلك مسلكًا غير ديموقراطي.

باور: هل تعني أن خلق قانون خاص بالجالية المسلمة يمكن أن يؤدي إلى حل المشكل؟ بالطبع لا، سيفضي ذلك لوجود أنظمة ثنائية القوانين، وهذا وقع سابقًا مع اليهود منذ 500 عام، وماذا كانت والنتيجة؟ كراهية ومذابح دموية وهو ما لن يختلف الآن.

شيلكه: لست من مشجعي تلك الفكرة، لأن الأحكام الشرعية قد تكون جائرة أو متشددة في أحيان كثيرة. وإذا ما غضضت الطرف عن رأيي الشخصي، فطبعًا حل الخلافات في مجالس شرعية غير رسمية أمر واقع، ومن الطبيعي تمامًا أن يعتمد الناس على قيمهم ومقدساتهم وشرائعهم الدينية وأعرافهم في محاولات لحل الخلافات فيما بينهم، دون اللجوء إلى المحاكم الرسمية.

لكن السؤال الواجب طرحه: هل من الأفضل أن تبقى غير رسمية، أم أن يتم تقنينها؟ أنا شخصيًا لا أستطيع الإجابة على هذا السؤال.

جورج دييز

الصحفي الألماني جورج دييز

بانغنستاد: هذا في الحقيقة كان تصريحًا من البروفيسور روان وليامز، وهو رئيس أساقفة كانتربري السابق وكنيسة إنجلترا. عمليًا كما أشار جون ر. بوين في أحد أعماله، فإن نسخة الشريعة كقانون شخصي مطبق على المسلمين موجودة، ومطبقة منذ زمن طويل على المستوى المحلي بالجاليات والمجموعات المسلمة ببريطانيا، وفي الأغلب ستظل على ذلك الحال.

لكن، أن تستحق الفكرة التعميم على مستوى أعلى، أي المستوى الرسمي، كي تعزز من دمج المسلمين في الدول الأوروبية؛ فلا أظن أنها فكرة سديدة، فغير المسلمين بأوروبا يميلون إلى تعريف الشريعة بحصرها في "الحدود"، وهم يعارضونها بشدة.

  • ﻫﻞ هناك تعميم للصورة النمطية السلبية عن المسلمين في أوروبا، أم هذه أن الصورة النمطية كما يروج لها راجعة لعدم التواصل بين الطرفين؟

دييز: أظن أن هنالك عنصرية تجاه المسلمين في المجتمع الغربي ترجع لما بعد الحداثة.

غرونبورغ: في أوروبا، التفريق بين المسلمين والعرب معدوم من الأساس منذ هجمات 11 أيلول/سبتمبر، لو كنت عربيًا، تركيًا أو حتى يهوديًا فأنت مرشح بقوة لتكون كبش فداء.

بانغنستاد: لا أظن أن هنالك عدم تواصل بين الطرفين. وحين يتم باستمرار الإشارة إلى الذكور، العرب والمسلمين خاصة، في وسائل الإعلام الغربية وأوساط التيارات السياسية المختلفة، كمغتصبين، وخارجين عن القانون ويهددون السيدات الأوروبيات، وما إلى ذلك، فنحن إذًا بصدد الحديث عن موجة تنميط عنصرية كلاسيكية وفعالة للغاية، تقدم بواسطة نشطاء وسياسيي اليمين المتطرف في كل مكان بأوروبا حاليًا.

شيلكه: مثل هذا التعميم يزيد أيضًا مصداقية حركات متشددة دينية أو قومية داخل المجتمعات المهاجرة في قولها  للشباب: "ألم نقل لكم أنهم لن يقبلوكم أبدًا؟"!

  • لننتقل إلى جانب آخر من القضية، إلى الداخل الأوروبي: ما قراءتكم لتأثير تدفق المهاجرين على دول الاتحاد الحدودية خاصة اليونان وإيطاليا، اللتان تعيشان أزمات عديدة؟

بانغنستاد: الجماعات المسلحة فاشية المنحى والتي تستهدف الأقليات غير الشعبية مثل الغجر والأفارقة، هي في الأساس موجودة، ومن قبل صعود رابطة الشمال إلى السلطة في الانتخابات الأخيرة. إلا أن هنالك أسباب كثيرة تؤشر إلى تشجيع المهاجرين للتسرب من حدود إيطاليا.

وبالنسبة لليونان، فأنا أكثر تفاؤلًا، ما دامت مذكورة في الحسبة، لحقيقة أن الأحزاب والتحالفات في اليونان قررت الدفاع عن الدولة بقوة أمام البزوغ القوي للتيار الفاشي، وذلك عن طريق سبل شرعية، وأيضًا لأن جزءًا كبيرًا من الغضب الشعبي موجه نحو البنوك المركزية الأوروبية، والتحالفات السياسية والاتحاد الأوروبي بدلًا من اللاجئين.

  • ألمانيا التي أبقت الباب مواربًا أمام تدفق المهاجرين، هل يمكن لسياساتها أن تجعلها في مسافة أمان من الفوضى الأوروبية الحالية؟

دييز: السؤال ليس حول ألمانيا، فألمانيا جزء من أوروبا، لذا فهي تتأثر بما يحدث بها، فأوروبا مبنية على التعاون والترابط، وأي مشكلة بأي دولة ستؤثر على بقية الدول بالتبعية وعلى القارة بشكل عام.

بانغنستاد: ألمانيا قدمت مفارقة مثيرة للانتباه، ففي خضم الأزمة العالمية للاجئين عام 2015، عاد المحافظون الألمان، كما معظم مكونات التيار المحافظ الأوروبي، إلى نفس ممارسة العشرينات والثلاثينات في تدبير صعود نجم الفاشية وقتها، أي بسلك كل سبل التحالف التكتيكية مع اليمين الشعبوي.

ما يجب فهمه من اللحظة المعاصرة يكمن في سياق الوعي التاريخي لتحالفات النخب الحزبية الألمانية. والألمان الذين تلوثت أيديهم بأبشع الأعمال الوحشية في تاريخ البشرية إبان الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، أيقنوا تقهقر موقفهم في الساحة فأخلوا الطريق في البداية لحزب "بيغيدا" ثم بعده حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف.

شيلكه: الباب ليس مفتوحًا للمهاجرين في ألمانيا ولم يكن أبدًا كذلك، لكن هناك ثغرات كثيرة لا تزال قائمة. ما يميز ألمانيا أنها ليس لها سياسة منظمة للهجرة على غرار الولايات المتحدة أو كندا، وكل موجات الهجرة الكبيرة من دول شرق أوروبا منذ انضمامها للاتحاد الأوروبي، ومن دول جنوب أوروبا منذ الأزمة، ومن سوريا بسبب الحرب، والروس من أصل ألماني في التسعينات، وطالبو اللجوء منذ غلق باب تأشيرات العمل إلا في المستويات الرفيعة، والعمال من الخمسينات حتى السبعينيات، وأهاليهم فيما بعد.. كل موجات الهجرة هذه كانت عشوائية، دون خطة سياسية لتشجيع الهجرة.

وحتى نهاية التسعينات، كانت كلمة "هجرة" ممنوع استخدامها في الوثائق الحكومية، لذا غالبًا الفوضى في ألمانيا أكثر من غيرها بالنسبة للهجرة.

  • مع تزايد أعداد الجالية العربية في أوروبا، هل يمكن أن نجد لهم في المستقبل جماعات ضغط سياسي على غرار اللوبيات اليهودية؟

غرونبورغ: لست متأكدا أن اللوبيات اليهودية بتلك القوة في أوروبا، لكن بالطبع التغيرات الديموغرافية ستساهم في تغيير نوعية الأفراد الموجودين في مراكز القوة، وأنت محق في ذلك. لا نعلم نتائج ذلك، فربما لن يحمل الجيل الثاني وما سيتبعه من أجيال، أي حنين أو مشاعر تجاه أراضي أجدادهم.

صامولي شيلكه

الباحث الفلنلندي صامولي شيلكه

شيلكه: لا وجود للوبي يهودي، وبذات الكيف لن يكون هناك لوبي عربي. صحيح أن هناك حركات وجمعيات وأفراد يدعون أنهم يتكلمون باسم جماعة ما، لكن لا اليهود ولا العرب لديهم موقف داخلي مشترك، ولا حتى مصالح مشتركة.

هذه هي المفارقة الكبيرة في سياسات الهوية، فبالرغم من جاذبيتها، إلا أنها لا تصلح كقاعدة عمل مشترك يهدف لتحقيق مصلحة ما.

بالمقارنة، نجد أن الفلاحين وتجار الأدوية وصانعي السيارات على سبيل المثال لهم لوبيات قوية ومنظمة تخدم فعلا مصالح مشتركة لمجموعة فئوية ما.

  • نهايةً، أي مستقبل ينتظر أوروبا وسط التطاحن السياسي والاجتماعي الذي تعرفه؟

بانغنستاد: برؤية متفائلة، يمكن القول إن ما نراه الآن هو مرحلة انتقالية. وبرؤية متشائمة، فيمكن القول إن أوروبا ستكمل بطريق سياسي كانت له نتائج مظلمة في الماضي.

المفارقة الكبيرة أنه بالرغم من جاذبية سياسات الهوية، إلا أنها لا تصلح كقاعدة عمل مشترك بهدف لتحقيق مصلحة ما

دييز: نحن نشهد انتهاء النظام العالمي المتعارف عليه، والذي كانت أوروبا أحد أقطابه المهيمنة. معظم تلك الأحزاب تعارض وستعارض تلك الحقيقة، وتتبنى سياسات خاطئة، مما سيؤدي إلى حدوث اضطرابات وتوترات بالمجتمعات الأوروبية.

غرونبورغ: كانت هناك دائمًا فجوات اجتماعية، فلا يمكن للوضع الاقتصادي فقط أن يفسر صعود التيار اليميني المتطرف في أوروبا.