09-ديسمبر-2018

مروان بوناصر، أو بوناصر الطفار، في إحدى حفلاته بإسطنبول (غنوة ضاهر)

"هذه صفحة بيضاء، وهذا قلم. تفضل، قل، تكلم، اكتب"، هكذا يخاطب مروان بوناصر نفسه زمن المطحنة، واقفٌ أو جالسٌ ربما، أمام منضدة تحمل يراعا وورقة بيضاء، يحدث المسخ القابع داخله بالبروز خارج عظامه أحرفًا ودمًا. ألم يعِر هذا المسكين انتباها لطاولة المغلوبة على أمرها؟ ألم تمر على فكره لحظة يسائل فيها إمكانية الورق على حمل همه؟ ماذا لو كان للقلم وعيٌ وثارَ على حركات يده؟

الرفض سمة أساسية من سمات حياة مروان بوناصر، طبعت عمله الفني وموسيقاه في الراب، وتجسدت بعدها في عمله الأدبي "الحرايق"

هي المسافة بين الأداة الجامدة والفكر المتحرك. لعبة الانسان التي يتقنها من يوم أن كان. من يوم أن علم قدرته على التحرك الواعي في مقابل الطبيعة الثابتة؛ كانت الآلة أداة لتحويل الواقع، والفكرة سيدة على الموجودات. لعبة يتقنها بوناصر ببراعة، هو الذي اختار التعبير عن حسه، دون كبته، والذي مارس ترتيق جروحه بعد استئصال خبثها، دون نسيانها والانغماس في ملذاتٍ كانت أقرب إليه من أحلامه.

اقرأ/ي أيضًا: مرحبًا بك في راب العصابات

خريج بشهادة ماجستير علوم اقتصادية، اعتلى منصة الفن المعارض، في حين فتحت له الوظيفة المرفهة داخل مكتب مكيف بأحد بنوك العاصمة اللبنانية بيروت ذراعيها، لكنه رفض إغراء المنصب، وفضل الكدح كـ"شوفير كميون" أو "سائق شاحنة" لتوزيغ المواد الغدائية.

هذا الرفض سمة أساسية من سمات حياة مروان بوناصر، سمة طبعت عمله الفني وموسيقاه منذ خطواته الأولى في مسيرة الراب، تجسدت بعدها بجلاء في عمله الأدبي المعنون بـ"الحرايق".  

و"الحرايق" اسم طريق إلى القدر المحتوم المشاع بيننا، الحقيقة الوحيدة بعد هذه الحياة. أخذ البوناصر هذا العنوان بدقة لما له من رمزية بقريته الأم، التي تسمي مقبرتها به. وبين الحياة و الموت مسيرة يطرحها بوناصر داخل هذا الكُرّاس الجامع لشخوص تلتقي وتختلف، لكن كلها محكومة بنهاية في الحرايق.

"مايهم هو الحياة"، كأنه أراد أن يعلنها شعارًا يختلف عن نظائره من الشعارات الباردة والمائعة، التي لا تحيل إلا إلى فردانية الصراع، الشيء الذي يميزه، و يميز هذا العمل الأدبي المتحرر في واقع فريد هو الذي يعيشه شاب في هذا السوق الكبير المسمى "عالمنا الأرض".

صبيٌّ من العين

"ولئن في البدء كانت الكلمة، فلقد كانت بدئيًا مبدعة، وكانت للحرية، تناضل ضد القمع وتثابر"، يقول مهدي عامل. هكذا تكون الثقافة في جدواها الأصلي الأصيل، انقلابية على كل قديم يقيد، مجددة بوعد الحياة في صراع يحتدم هيمنة على رقاب المستضعفين، و منتصرة للحق والعدالة فنا وإبداعا.

يعرف مروان بوناصر نفسه بلكنته البعلبكية الجافة: "إنسان من هالكوكب، له رأي فيما يصير معه وفي العالم من أحداث. لكن الفرق أنه يعبر عنها بطرق مختلفة بالموسيقى أو الكتابة".

من مسقط رأسه العين، تلك القرية الصغيرة الواقعة في قضاء بعلبك، على الشريان الرابط بين بعلبك اللبنانية وحمص السورية، قرية مهمشة ومحرومة، تتكالبها أنياب الطوائف والأحزاب، تمزقها الصراعات الإقليمية منذ أن كانت. وفي ظل هذا الجو رأى بوناصر النور سنة 1987، وسط عائلة بسيطة، كبر وكبر معه ارتباطه بالفن، لدرجة جعلته نشازا بين أقرانه. كبر معه هذا الارتباط  إلى أن تكلل بإنتاج أول ألبوم وهو "أصحاب الأرض"، رفقة مجموعة "الطُفَّار" التي كان آنذاك عضوًا فيها.

كان ذلك الألبوم نقطة انطلاق لمروان بوناصر، وانطلاق كذلك لتجربة موسيقية فريدة في الشرق الأوسط، تنضج يوم بعد يوم، وتصب فيها مآسي المنطقة زيوتها، فتتقد شبابًا من لبنان وسوريا والعراق والأردن وفلسطين. بأشعار تحمل وعيًا بالمعاش، وتحمل المهم اليومي ومواقف مما يحدث، فتعبر وتركب اللحن الجديد القديم، والقادم من غرب مذعنًا لشمس الشرق تودعته أوزانها، ليكون مزيجًا يعكس نَفَس الشباب المعاصر وروح العالم الذي يتضاءل حجمه يوم بعد يوم، و تصير المسافات أقصر بين جهاته الأربع.

طافر من الخشبة

تجذر الإشارة إلى هذا الاسم الغريب: "طَافر"، والذي يرادف في المكان الذي يشيع فيه، شمال شرق لبنان، صفة الثائر، كونه يطلق على الكادحين من مزارعي الحشيش الملاحقين من طرف الشرطة اللبنانية. هكذا، فلا عجب من اختيار اسم المجموعة، وكون بوناصر طافرًا منهم، كما يتبدد عجب تسمية الألبوم "أصحاب الأرض".

شكل هذا ألبوم نقلة نوعية في مسار موسيقى الراب اللبنانية، بحيث نقلتها من صلات الملاهي إلى مشاغل الشعب وهمومهم، من أمكان بيروتية معينة إلى الهوامش والضيع والأرياف. يقول بوناصر لـ"ألترا صوت": "ألبوم أصحاب الأرض كان من أهم إصدارات الموسيقية التي لازالت حيّة، ويتم تداولها للآن. وكانت محفزًا أساسيًا للكثيرين ممن قرروا بعدها نشر أعمالهم والعمل على هويتهم الموسيقية الخاصة".

أسأله: ما الذي تغير في مروان بوناصر بعد انفصاله عن فرقة الطافر؟، فيجيب: "كانت فرصة للتعامل بحرية مع كثير من الشباب المبدع في الميدان، و بناء سلم وعي جديد بعيدًا عن مضامين ألبوم أصحاب الأرض، التي كانت أقرب إلى المفخرة بالتشبيح، والتفاخر بحمل السلاح والتحريض على القتل والحرق"، مضيفًا: "لم تغير موقفي من الدولة وظلمها أبدًا، لكن تغيَّر موقعي، وبطلت أكون في المعركة أداة غبية تفعل ما تريده منها الدولة أن تفعل".

مع بداية مسيرته المنفردة، عمد بوناصر على التعبير عن موقف أكثر أصالة وعقلانية مما يدور حوله. كانت أول أغنيه حول المقاوم المغيب في سجون القهر الفرنسية، جورج إبراهيم عبدالله، وبعدها انطلق في مجموعة أغاني تحكي بلسان المنسيين، بين القرى المنسية والمدن المتوحشة، جمعها في ألبوم باسم "تثليث"، وهو الألبوم الذي وُزّع مجانًا في بيروت ولقيَ إقبالَا كبيرَا.

يغني فيه حول زراع الحشيش "المحرومين"، وحول تيه بيروت الجديدة وغرقها وسط القمامة و"عفن" السياسيين. ويغني عن مأساة الشعوب العربية التي ترزح تحت ثقل الديكتاتوريات الدموية. وعن هذا النَّفَس التحرري الجديد، يصرح بأن "هذه المعارك صارت مرتبطة في رأسي بنضال أوسع بكثير من مجرد شعارات ترفع. صارت خطًا أفقيًا نضاليًا بيجمع أي مظلوم في الأرض مهما كان لونه أو دينه أو طائفته أو انتمائه".

ويضيف: "تربينا إنه الظلم هو إسرائيل وفقط. ثم عرفنا أن بعض الظالمين العرب يعطون دروسًا لإسرائيل في الدموية، مهما علا صوتهم بشعارات المقاومة".

إلى أن جاء عام 2015، العام الكارثة بالنسبة لبوناصر على المستوى الشخصي والعملي. كان بعيدًا فيه عن الموسيقى إلا من بوحٍ معبر عمّا كان يمر به من أزمان وطحن، جاء صادقًا وشفافًا تحت عنوان "المطحنة".

من المايكروفون إلى الرواية

"الحرايق"، وهو كتاب من 67 صفحة من القطع المتوسط، مقسم إلى 19 باب، كل باب يمثل شخصية كاملة المعالم والسمات، وكل شخصية لها وعيها وفكرها ورأيها الخاص فيما يقع، وكل شخصية فيها جانب من قارئها. وتتخلله رسومات غريبة.

على الغلاف طفل صغير يطل من فوق شباك، تحمل عيناه قصة. وعلى الصفحات الأولى جرد لك مشاركٌ في العمل بجهد فني رسمًا وتصويرًا أو لغة، وفي الصفحة الموالية إهداء بالخط العريض إلى "ملائكة شرفات بيروت، بوصلة حجمنا الحقيقي"، يليها استشهاد بمقطع من قصيدة للشاعر العراقي مظفر النواب: "كيف نبني السفينة في غياب المصابيح والقمر".

وإذا لخصنا الكتاب في هذه المعطيات الظاهرية، وإن أسهبنا في وصفها وتجميلها بالعبارات، أو ربطناها بمقصد معين، قد نكون مجحفين في حق كل حرف في صدره. فكل حكاية من حكاياته، وكل شخصية من شخصياته تحمل سيادة خاصة على نفسها، لها حياتها ومزاجها الخاص، في وحدة كاملة الحرية والاستقلالية عن جاراتها داخل الكتاب، وبجيرانها خارجه تُكوّن ارتباطًا ممكن الحصول في فرد أو تشاركه في جماعة.

تناقضٌ يحيلنا إليه بوناصر أكثر فأكثر من خلال سجال شخصيات الكتاب عبر كلماته. وبين أوراقه تشعر التجاذب التام بين صفحة وأخرى، بين جزء وآخر، في صراع يحيلنا إلى صراع المواقف داخل كل فرد منّا، وصراع مواقفنا مع مواقف الآخرين.

بهذا يكون الحرايق كتابًا يعبر عما يسميه البعض "شيزوفرينيا اجتماعية"، و تطبيعًا مع الصراع والشك، وكفرًا بالقطعية، وتقويضًا لمعايير الصحيح والخطأ المثالية كما نعهدها. وتكون "الحرايق" مقبرة داخلية تدفن فيها أفكارنا وطموحاتنا لنكون ذلك الكائن الاجتماعي الذائب وسط الجماعة.

غلاف كتاب الحرايق

عبر العنوان و ما يحيل عليه، أي "الحرايق" وهو إسم المقبرة القابعة بقرية العين أصل صحبنا، مساءلة لمسألة الموت والحياة، حيث يعلنها دعوى للحياة بكل تناقضاتها وصراعاتها، من أجل إثبات الموقف وجعل المقاومة واجبًا فرضًا على كل فرد، وهدفا له، بينما الختام بين حفر "الحرايق" حتمية مشاع لكل ابن آدم على هذه الأرض.

لم ينفصل كتاب الحرايق عن قضايا الواقع اللبناني، فهو الذي تكلم بلسان كل من له حق، وكل من هو مقموع داخل المجتمع، فكان للمرأة مساحة كلام فيه، وللشاب والشيخ، ولمدمن المبروكة، وللكادحين. ولصاحبه مجال لسرد وقائع من حياته الحقيقية، ما يجعل الكتاب أكثر بصاحبه، وهو ارتباط ذاتي، يكاد يكون من خلاله سيرة ذاتية.

الحرايق تجربة فريدة اختار فيها الكاتب التحرر من قيود اللغة التقليدية، وأن يكتب بلغة أقرب للغة الراب، رغم أنها فصيحة وشاعرية أكثر من كونها سردية أو خطابية.

إنتاج خارج نمط الإنتاج

"هكذا بالصدفة بدأت كتابة الحرايق. والذي لم يكتب ليكون درة أدبية تحصد الجوائز، وإنما محاولة لنجدة نفسي ونجدة كل من يصله الكتاب. ولهذا كُتب"، يصرح بوناصر.

ويضيف: "إنتاج كتاب الحرايق صار بطريقة مستقلة، بطريقة تشبه طريقة عملنا في الموسيقى، التي تجعل المضمون يصل وحده لملايين الناس دون اللجوء للتسويق المدفوع والخضوع لشروط المنتج والممول".

معتمدًا في إنتاجه على طريقة حرة كذلك، أي بنفس الطريقة التي ينتج بها موسيقاه، بالتعاون الطوعي لكل من يحيطون به من أصدقاء، وبذلك لم يمر بنفس سبل إنتاج الكتب المعتادة، أي بدار نشر وموزع وتسويق وإعلانات مسبوقة الدفع، بل تخلى عن كل هذه التعقيدات التي يحكمها السوق، مصرًا على أن الإبداع الثقافي وجب أن يكون بعيدًا عن عالم المال وسوق الأعمال.

لم يتوقع البوناصر النجاح الذي حققه كتابه، وهو نجاح عزَّزه خطه الفكري وخطابه المعبر بعمق عن هموم الشباب الواعي. فكانت المفاجأو بأن وزع 700 نسخة في الشهرين الأولين، من أصل 1100 نسخة تضمها الطبعة الأولى، منذ بداية تسويق الكتاب في شهر أيلول/سبتمبر من سنة 2016.

يُضاف إلى ذلك أن الكتاب وُزّع في أكثر من بلد حول العالم، واصلًا إلى بلدانٍ عديدة، بين أيادٍ عديدة لم يصافخا قط، وعيونٌ لم يقابلها من قبل، وكل هذا بالمجان!

لم ينفصل كتاب الحرايق لمروان بوناصر عن قضايا الواقع اللبناني، فهو الذي تكلم بلسان كل من له حق، وكل من هو مقموع داخل المجتمع

وانطلق التسويق لكتاب "الحرايق" بحفل راب بإحدى قاعات بيروت، أقامه صاحب العمل ورفاقه في الفن. وكانت تذكرة دخول الحفل تغطي فقط ثمن طبع الكتاب. وفي حين كان يذهب خيال صاحبنا في أقصى تفاؤله إلى توزيع 100 نسخة، جاءت الحصيلة تفوق 220 نسخة بيعت ليلتها. 

بعد هذه التجربة، وبسؤالنا لمروان بوناصر عن عزمه الاستمرار في الكتابة، أجاب بنفس ابتسامته ومزاجه الرائق: "الجواب هو نعم أكيد. ويمكن لهذا لازلت أعيش، أي حتى أكتب. وخلال الشهور الماضية لم أكن أقوم بشيء إلا الكتابة". 

 

اقرأ/ي أيضًا:

فرقة الروك الفرنسية "Feu! Chatterton".. موسيقى لأجل بيروت

إسماعيل فريحي.. الرقص أفقدني كثيرًا من "الريش" في الجزائر