في الوقت الذي نجلس فيه في منازل لا يتوقّف أصحابها عن تذكيرنا بأنها ليست لنا؛ في الوقت الذي نتنقّل فيه بين فيديوهات كثيرة لسوريين يُضربون ويُهانون ويُشهِّر بهم، نغرق شيئًا فشيئًا في خوفٍ غير مفهوم.
نخافُ أن نكون الهدف التالي، لكننا نخاف أكثر مما قد يحدث بعد أن نُصبح هدفًا. نخافُ لحظة جمعنا وإرسالنا إلى المكان الذي هربنا منه قبل 13 سنة، وربما أكثر أو أقل. ونتساءل، بينما نغرق في الخوف، كيف آلت حياتنا مجرد مساحات لاختباره؟ فبعد أكثر من عقد من الزمن، أصبحنا نفرّق بين خوفٍ عابر يسرق منا لحظة طمأنينة عابرة بدورها، وآخر مقيم يُمعن في تهشيم قدرتنا على العيش يومًا بعد يوم.
وندرك بينما نفكّر في ما سبق، ما دفع ويدفع الآلاف بل مئات الآلاف منا إلى قطع البحر للوصول إلى بلاد لا تزال الحياة فيها ممكنة. أو، على الأقل، ليس ثمة فيها ما يدفع أحدنا إلى كتابة ما أكتبه الآن، أو صرف أيامه على الخوف ورسم سيناريوهات سوداوية متخيّلة لما قد يحدث وما قد لا يحدث.
هذه حياة مفزعة تبدو الكلمات حين نكتب عنها ثقيلة بثقل الصور التي نحاول، عبثًا، وصفها
تلك أيضًا بلاد غريبة لكن الحياة فيها لا تزال ممكنة وإن بأقل ما يمكن منها. قد تكون عكس ذلك ونكون واهمين، بيد أنهُ لا يسعنا تخيّل العكس في لبنان، حيث نحن الآن وحيث تبدو الحياة أكثر من أن نستحقها، أو أننا أقل من أن نستحقها. وفي كلتا الحالتين نحن أقل.
والمفارقة أننا نُمنح صورًا لا يُمكن أن تنطبق علينا. نصوّر كأقوياء ومستوطنين ومحتلين لكننا مع ذلك، نبقى أقل. هذه مفارقة من مفارقات كثيرة تعبرُ في ذهن أحدنا بينما يعبرُ طريقًا ما من البيت أو إليه في هذا الوقت، حيث السيرُ في هذا الطريق (إلى العمل، الدكان، الصيدلية، المستشفى.. إلخ) أشبه بالسير في حقل ألغام. ماذا يفعل الإنسان حين يسير في حقل ألغام وينجو منه؟ يبكي!
نبكي لأن الخيارات المتاحة أمامنا أقلُ من أن تُذكر؛ نبقى في لبنان؟ نعود إلى سوريا حيث لا يزال المسلخ قائمًا لكنه يتوارى خلف ستائر لا يريد أحد إزاحتها ليرى ما يحدث خلفها؟ ثم من قال إن اختفاء أصوات المدافع يعني انتهاء الحرب؟ وبصرف النظر عن ذلك، فإن أصوات المدافع والطائرات الحربية (والموت الذي تحملانه) لا تزال حاضرة في شمال سوريا، حيث يحتاج ملايين البشر إلى المساعدات للبقاء على قيد الحياة.
هذه حياة مفزعة تبدو الكلمات حين نكتب عنها ثقيلة بثقل الصور التي نحاول، عبثًا، وصفها. ثقيلة كالمشاهد التي تضعنا أمامها مخيلتنا، كالمشهد الذي نرى فيه أننا نُضرب ونُركل ونُشتم ونُهان لا لشيء سوى لأننا سوريين. أو لأن أحد منا اقترف إثمًا ما، لكن العقاب عليه يجب أن يكون، بالضرورة، جماعيًا.
من قرأ كافكا يتخيّل نفسه في هذه الجغرافية، وفي هذا الوقت، بطل "المحاكمة" الذي يُحاكم على تهمة لا يعرفها بعد إقناعه بأنه مذنب، ذلك أن ما يحدث في هذه البلاد مشابهٌ إلى حدٍ ما، إذ يُحاكم الجميع على خطأ فرد قد لا يسمع به كثيرون، لكنهم قد يُحاكمون أيضًا لأنهم يتشاركون معه الجنسية نفسها. وهذه الجنسية تكفي لإدانة أي إنسان وعدِّه مجرمًا، ومُذنبًا، ومخربًا، ومحتلًا.