كثرت مطالبات بعض ناشطي السوشيال ميديا في الآونة الأخيرة بضرورة أن يكمّ المغتربون والمغتربات أفواههم بما يخص مجريات الحرب في لبنان، تحت حجّة أن من يعيش هو وأبناؤه في أمانٍ بعيدًا عن الحرب ودوي القذائف، لا يحقّ له إبداء الرأي أو مناصرة حق اللبنانيين في المقاومة. إنه الفريق نفسه الذي يتهم أنصار ما يعرف بمحور الممانعة بممارسة القمع على حرية الرأي والتعبير، وبأن هؤلاء الناشطين يُمنعون حتى من الحزن على ما فقدوه أو من النقد وطرح الأسئلة. لكن هذا الفريق لا يدرك ربما أنه بدعواته المتكررة هذه، يمارس أيضا قمعًا لحرية الرأي والتعبير!
لست هنا بصدد الدفاع عن أي محور أو مجموعة لبنانية أو انتقادها. إنما أكتب لأعبّر عن صوت المغتربين والمغتربات اللبنانيين واللبنانيات المنتشرين في أصقاع الأرض، وهو صوت قد لا يُسمع أو لا يلقى صدى داخل لبنان. معظم هؤلاء لم يغادروا أرضهم طوعًا، إذ ضاقت بهم سبل العيش في لبنان فاضطروا للرحيل بحثًا عن مصدر رزق لهم ولعائلاتهم، أو نتيجة أسباب أخرى جعلت أمر رحيلهم محتمًا. بعضهم يعيش في ظروف أسوأ بكثير مما عاشوه بين ذويهم وأحبائهم في لبنان، فليس جميعهم، وخلافًا للوهم السائد، يمتلك أموالًا طائلة أو عقارات أو ثروة عائلية سهّلت هجرتهم وإقامتهم في الخارج. ومنهم من يضطر لمواجهة وتحمّل ظروف صعبة وعُنصرية في أماكن غربتهم لكي يعيلوا أنفسهم وأهلهم في لبنان.
من المعروف أن لبنان، خاصة في السنوات الأخيرة، يعتمد اقتصاديًا وبشكل كبير على التحويلات النقدية التي يرسلها المغتربون، والتي بلغت نحو 38% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2022 بحسب تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سنة 2023. هؤلاء لم يلجأوا إلى المنظومة السياسية الفاسدة ليعتاشوا منها، بل صبروا وتحملوا المشاق بعيدًا عن أرضهم في سبيل الاستمرار. الكثير منهم أيضًا لم يستفد من الأحزاب اللبنانية للوصول إلى مناصب مرموقة في وزارات أو مؤسسات ومنظمات دولية، ولم ينالوا الامتيازات بسبب علاقاتهم الحزبية أو الطائفية.
ترك العديد من المغتربين والمغتربات أرضهم لأنهم لم يمتلكوا علاقات بعض من انخرطوا في منظومة الفساد اللبنانية كي يجدوا عملًا، أو لأنهم ربما رفضوا وظائف لا تمثل قناعاتهم ولا تتوافق مع قيمهم
لقد ترك العديد من المغتربين والمغتربات أرضهم لأنهم لم يمتلكوا علاقات بعض من انخرطوا في منظومة الفساد اللبنانية كي يجدوا عملًا، أو لأنهم ربما رفضوا وظائف لا تمثل قناعاتهم ولا تتوافق مع قيمهم. ربما لأنهم لا يمتهنون الكذب والتملق، والذي بات يُعرف اليوم بمسميات كـ"مهارات التواصل" و"العلاقات العامة" في المجتمع اللبناني!
هؤلاء المغتربون والمغتربات الذين يكبر أطفالهم بعيدًا عن تراب وطنهم ودفء ومحبة أهلهم وذويهم، بعيدًا عن لغتهم وثقافتهم، وذكريات حاراتهم وشوارعهم... هل فكر يا ترى منظرو السوشيال ميديا المعنيون بمعنى أن يعيش المرء وأطفاله بعيدًا عن محبة عائلته وأصدقائه وعن اعتياد اللغة والأكل والطقس؟ نعم، ولذا اختار البعض منهم البقاء في لبنان، كما كان لبعضهم ترف الاختيار والموازنة بين إيجابيات البقاء وسلبياته، وليس منّةً على أحد.
في ظل هذه الظروف بتنا نشهد نوعًا جديدًا من قمع حرية الرأي والتعبير ، والذي اعتدنا أن تمارسه سلطة حاكمة أو أحزاب سياسية، لكنه بات اليوم يتخذ مظاهر أخرى، ويمارس أيضًا من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي أنفسهم، ولا سيما من يعتبرون أنفسهم في عداد المؤثرين والمؤثرات. غالبًا ما يحدث هذا من خلال التنمّر اللفظي وإطلاق الأحكام والتشهير، بالإضافة إلى استهداف بعض الحسابات والتبليغ المتعمّد عنها.
وكأن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت، ولا سيما إثر بداية الحرب الأخيرة، ساحةً جديدةً للرقابة الاجتماعية غير الرسمية، مع مبالغة بعض المستخدمين في نفخ سلطاتهم الفردية وتضخيمها لتمارس نوعًا من القمع الذاتي أو الرقابة الشعبية، فتقيّم الآراء، وتصدر الأحكام، وتضغط من أجل إسكات أو إلغاء الأشخاص الذين يعبّرون عن أفكار غير محبذة لهم. تتشكل عبر هذه الممارسات مجموعات تضامنية تُستثمر من خلالها الإعجابات والمشاركات.
كأنه وفي هذه الحرب لا يكفينا خوفنا من فقدان أحباب ودمار أرزاق، بل بتنا نخضع أيضًا لرقابة مجتمعية جديدة تحاول تقويض الآراء المختلفة وتقرر من يمتلك الحق في الكلام ومن يجب إسكات صوته. وهذا بات ينطبق أيضًا على من ظنوا أنفسهم ضحايا للقمع.
إنها أدوار سلطوية جديدة تتجسد في أحكام وتهديدات بعض مستخدمي منصات فيسبوك أو إكس في الساحة اللبنانية، والذين نصبوا أنفسهم قضاة وحكامًا يقررون ما يجب وما لا يجب على الآخر أن يكتبه ويشاركه ويعبر عنه، ومنهم من يستهدف مؤخرًا أولئك الذين يعيشون خارج الحدود اللبنانية.
من المفهوم أن الكثير من اللبنانيين واللبنانيات في الداخل يشعرون بالضغط والمعاناة المباشرة جراء الحرب. وبالتالي، قد يرى بعضهم أن المغتربين والمغتربات يتمتعون بترف إبداء الرأي دون أن يختبروا نفس المعاناة، أو يعتقدون أنهم منفصلون عن مصاعب الواقع كونهم يعيشون في أمان. غير أن هؤلاء ربما لا يدركون ما يعانيه المغترب أو المغتربة جراء كونه أجنبيًا في بلاد غريبة. لقد غاب عن بالهم أيضًا أن الكثير من هؤلاء، رغم رحيلهم عن لبنان، لم يستغنوا عن هويتهم الأصلية ولا انتمائهم الطبيعي، وأن حقهم في التعبير عن آرائهم هو حق ينبغي صونه، عدا كونه ربما يصلح لمن هم داخل لبنان أكثر مما يصلح صوت لبنان الداخلي لمن يعيش بعيدًا عنه.
إن المغتربين والمغتربات هم لبنانيون ولهم الحق في التعبير والاختيار والتضامن ومساندة المقاومة أو الانتقاد والمعارضة. لهم أيضًا الحق في الشعور بالألم والخوف على أحبتهم، كما هو حق كل لبناني ولبنانية في هذه الحرب الهمجية. للبعض أيضًا بيوت وأهل في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، ومنهم من فقد بيتًا أو فقد أعزاء.
باختصار، إن خوف وحزن كل لبناني ولبنانية هو أيضًا خوف وحزن كل مغترب ومغتربة. يا ليتنا لا نضيف ظلمًا جديدًا إلى ما يعانيه المغتربون والمغتربات الذين حُرموا من بلادهم منذ سنوات عديدة. يا ليتنا، ورغم العنف والدمار المنتشرين، نكون أكثر تسامحًا ووعيًا بأهمية الرأي والرأي الآخر وضرورة احترامه.