"ستتوقّف، لن تتوقف، ستتوقّف، لن تتوقّف"، بدا الزّملاء في "السّفير" كمن يقطع أوراق الوردة باحثًا عن جواب، في عيدها الثالث والأربعين، "السّفير" ستودّع قرّاءها، فجأةً ومن دون سابق إنذار، قرّر ناشر الصّحيفة إغلاقها، وبالتّالي إسدال السّتار على قصّةٍ ضاربة جذورها في عمق التّاريخ الإعلامي العربي.
حملت السفير راية النقابات والعمال لسنوات لكنها حملت أيضًا سيف الصّرف التّعسفي بوجه عمالها وصحافييها مؤخرًا
أسبوعان من الهرج والمرج سادا الوسط الإعلامي اللبناني بشكلٍ عام، وأسرة "السّفير" بشكلٍ خاص. مواقف تضامنية، مقالات نعي ومنشوراتٌ على مواقع التّواصل الاجتماعي تمجّد بالصّحيفة "الرّاحلة" وتاريخها، فيها رسم ناجي العلي، وكتب المئات من روّاد الصّحافة العربية، هي من سطّرت المواقف المشرّفة في الحرب العربية-الإسرائيلية، نطقت بلسان المقاومة متحدّيةً آلة الحرب التي اعتدت عليها مرّاتٍ ومرّات، هي ذاتها الصّحيفة التي حملت لواء العمّال والنّقابات، واكبت التّظاهرات وأفرغت على صفحاتها حيّزًا كبيرًا للتعبير عن التّضامن المحقّ مع العمال في وجه ظلم أرباب العمل، بذلك فتحت لها في قلوب الجميع بابًا من الحبّ، ظهر في حملات التّضامن الأخيرة مع "السّفير"، لكن.
اقرأ/ي أيضًا: الصحف الجزائرية.. صراع البقاء
الصّحيفة ذاتها التي حملت راية النّقابات والعمّال، حملت سيف الصّرف التّعسفي بوجه عمّالها وصحافييها، عندما يجد ربّ العمل نفسه مضطرًا لأن يدفع من جيبه، يتناسى "المبادئ" والشّعارات. ناشر "السّفير" قرّر إغلاقها، يدفع 159 موظّفًا وعائلةً ثمن قراره، ناشر "السّفير" قرّر إبقاءها، يتنفس 159 موظّفًا وعائلةً الصّعداء.
بالمبدأ العام، المعادلة هي كالتّالي: "النّاشر يمدّ يده والموظف يقدّم رقبته، ليصير للناشر إمكانية ليّها وكسرها كيفما يشاء". استغلّ ناشر "السّفير" نفوذه وأبقى أبواب صحيفته مفتوحةً بحسب بعض وسائل الإعلام، مع أن القرار لم يُبلغ مباشرةً للزملاء في "السّفير". مع أنّ الصّحيفة بالأغلب ستستمرّ، لكن "السّفير" اليوم ليست نفسها "السّفير" الأمس.
صحيفة الأمس كانت مبدئيةً بمواقفها، صحيفة اليوم تمثّل تاجرًا شاطرًا يتشاطر بشطر الأرباح من تعب موظّفيه. عند شيوع الخبر الصّادم، أي خبر إقفال الصّحيفة، لم يفصل الرّأي العام في التّضامن بين الإدارة والموظفين، أما اليوم، فالتّضامن حصريٌ مع الزّملاء العاملين في "السّفير" بمختلف قطاعاتها، لأن التّضامن معهم يعني تضامنًا مع الجسم الإعلامي برمّته، في وقتٍ قد يجد فيه الصّحافي نفسه مضطرًا للبحث عن عمل، بعد أن أقفلت مؤسّسته أبوابها بسبب شحّ التّمويل، سوء الإدارة أو التّحجر الفكري من حيث قبول التّطور ومواكبته، فبعض أرباب العمل لا يعرف أن الصّحافة مهنة وأن العامل فيها ناقل معلومة ورسالة، لا مرتزق.
عند شيوع خبر إقفال الصحيفة، لم يفصل الرأي العام في التضامن بين الإدارة والموظفين، أما اليوم، فالتضامن حصري مع الزملاء في السفير بكل قطاعاتها
اقرأ/ي أيضًا: نجيب الريس.. صقر الصحافة السورية
تجربة "السّفير" أو "النّهار" أو غيرها من المؤسسات الصحفية، بناها الصحافيون وعمال الطباعة والطي والتوزيع والمدققون والمنفذون، النّاشر وحده لا يمكن أن يُشكر، هو آخر من يشكر بالأحرى، تأخير قرار الصّرف لشهرين أو ثلاثة مع تشديدٍ في قوانين العمل، كالحضور الإلزامي والالتزام بالدّوام، ليس إلّا حيلة التفافية، بعد الفشل بتطبيق الصّرف التّعسفي، لا بدّ من حلٍّ يحمي ثروة النّاشر التي جمعها من تعب موظّفيه، الحل الأول تأخير قرار الإقفال، وصرف الموظفين تباعًا ودون إحداث ضجيجٍ إعلامي، مع أنّه لو حدث، لن يوقظ وزارة الإعلام ولا نقابة المحرّرين أو الصّحافيين، هؤلاء آخر المعنيين، وأصل العلّة في تحويل الصّحافي لمرتزق.
أما الحلّ الثّاني، فهو شقّ الصّف، واللعب على وتر النّفوذ، لن تنفع شكاوى الزّملاء لمجلس العمل التّحكيمي ووزارة العمل، فلا تأثير فعلي للوزارة على المؤسّسات. المؤسّسة تمرّ بضائقةٍ اقتصاديةٍ مالية، لمَ لا تقسّمها أسهمًا وتعرضها للبيع؟ لمَ يا ناشر الصّحيفة لا تكلّف خاطرك وتتصلّ بصحافيي الصّفحة الاقتصادية في السّفير ليجدوا لك حلًا؟ لمَ لمْ تسعَ للعلاج والحلّ، بل اتجهت مباشرةً نحو الإقفال؟ على كل حال، سقط القناع عن وجه الإدارة، وأصبحت الرّؤية منقشعة وبوضوح أمام الزّملاء، الإدارة تحمل شعاراتٍ وتمشي عكسها.
ما واجهه ويواجهه الزّملاء في "السّفير"، هو نموذجٌ حيٌّ عن ما سيواجهه الجميع في حال احتجب التّمويل السّياسي عن المؤسّسات الإعلامية، ويلام حصرًا هنا دوائر التّخطيط والإدارات في هذه المؤسّسات، التي لهثت خلف الكسب المادي دون التّطوير ومواكبة الحداثة الطارئة على سوق إنتاج المحتوى الإعلامي، ورقيًا ورقميًا، صحيفة "الإندبندنت" أوقفت نسختها الورقية منذ أيام وتوجّهت نحو النّسخة الرقمية، لم تهدّد عامليها أو تهضم حقوقهم.
المقاربة بسيطة، إذا كنت تملك سيارةً وحصانًا، وتريد السّفر لمدينةٍ أخرى، أي وسيلةٍ ستعتمد؟ الحصان أم السّيارة؟ الأمر في الإنتاج الصّحافي مشابه اليوم، بين الورقي المحصور والإلكتروني الرّقمي المتاح للجميع الواسع الانتشار، ماذا تختار/ين؟، مع أن تجارب حديثة في عالم الصحافة المطبوعة عربيًا تشي بأن للحصان حاجته أيضًا، كما أن العناية به لهي من كرم أخلاق الفارس. بالأمس كان التّعاطف مع السّفير واجبًا أخلاقيًا، لكن لن يعفِي التّعاطف مع الصّحيفة ناشرها من المحاسبة والمساءلة. النّاشر تحدّث كثيرًا، قرّر وندب، تسوّل وقبض، لكن الزّملاء لم يقولوا كلمتهم بعد وهم أصل الكلمة وناقلوا "صوت من لا صوت لهم"، فلننتظر، وإلى ذاك الحين دعونا لا نتواطأ، أقله، مع احتكار وابتزاز الزملاء الصحافيين/ات في لقمة رزقهم وعيش عائلاتهم، خاصة في الوقت الذي أمسى "ذبح" وتقتيل الصحافيين صنعة رائجة.
اقرأ/ي أيضًا: