كتب آلان دي بوتون، صاحب كتاب "قلق السعي إلى المكانة"، هذا المقال في النيويورك تايمز، مستعيدًا رواية "الطاعون" التي تعدّ واحدة من أهم روايته.
في كانون الأول من عام 1914 بدأ ألبير كامو بالعمل على قصة تدور حول تفشي مرض من غير الممكن السيطرة عليه، انتقل من الحيوان إلى الإنسان وانتهى به المطاف لقتل نصف سكان بلدة عادية في مدينة وهران على الساحل الجزائري.
نُشرت رواية "الطاعون" في عام 1947، وقيل مرارًا إنها الرواية الأوروبية الأعظم في مرحلة ما بعد الحرب
نُشرت رواية "الطاعون" في عام 1947، وقيل مرارًا إنها الرواية الأوروبية الأعظم في مرحلة ما بعد الحرب. يبدأ الكتاب بأجواء من الحياة الطبيعة، فسكان المدينة مشغولون بحياة متمحورة حول المال وشوائبه، ومع تطور الأحدث يسود الرعب. يصادف الراوي وهو الطبيب ريكس، جرذًا ميتًا، لتتكرر هذه المصادفة مرارًا، وسرعان ما يكتشف تفشي الوباء في وهران، لينتقل هذا الداء من مواطن إلى آخر، ناشرًا الهلع في شوارع المدينة.
اقرأ/ي أيضًا: مقتل ألبير كامو.. سر المخابرات السوفييتية
من أجل كتابة هذا العمل، كان على كامو الانغماس في تاريخ الأوبئة. كان عليه أن يقرأ عن الموت الأسود الذي سبّب مقتل ما يقارب الخمسين مليون شخص في أوروبا خلال القرن الرابع عشر، والطاعون الإيطالي عام 1630، عابرًا سهول لومباردي وفينيتو، موديًا بحياة 280،000 شخص، كما أنه بحث في الطاعون العظيم الذي ضرب لندن سنة 1665، بالإضافة إلى الطاعون الذي قضى على الساحل الشرقي للصين خلال القرنين الثامن والتاسع عشر.
لم يكتب كامو عن وباء واحد بشكل خاص، ولم تكن كذلك كتابته موجهة، كما افترض البعض، لتكون قصة مجازية عن الاحتلال النازي لفرنسا. كان سبب انجذاب كامو الى هذا الموضوع نابعًا من إيمانه بان ما نسميه وباء هو الحوادث التاريخية الحقيقية، التي تمثل تكثيفًا لشرط عالمي مسبق، وأمثلة درامية لقاعدة دائمة: مضمونها أن الإنسان غير منيع ضد الإبادة العشوائية في أي زمن، وبغض النظر عن سبب حدوثها إن كان بفعل فيروس أو حادث، أو بسبب فعل بشري ما.
لم يكن لسكان وهران القدرة على تصديق ما يجري، على الرغم من موت ربع المدينة، استمروا بتخيّل سبب ما سيمنع إصابتهم بهذا الوباء. فهم بشر معاصرون يمتلكون الهواتف والطائرات والجرائد، والمؤكد أنهم لن يموتوا مثل بؤساء لندن في القرن السابع عشر، أو كانتون في القرن الثامن عشر.
تقول إحدى الشخصيات: "من المستحيل أن يكون هذا طاعونًا، فجمعينا يعرف أنه تلاشى في الغرب"، ليضيف كامو: "نعم الجميع يعرف، ماعدا الأموات".
يعتبر كامو أنه لا وجود للتقدم في التاريخ عندما يتعلق الحدث بالموت، ولا يوجد لدينا مفر من ضعفنا. أن نكون على قيد الحياة كان وسيبقى دائمًا حال من الضرورة، حقيقة هي حالة من "الظرف الأساسي" الحتمي. وخلال الطاعون او عدم وجود الطاعون، هناك دائمًا وباء، بحال قصدنا بالوباء الاستعداد الدائم للموت المفاجئ، بسبب حدث مباشرة على تغير حياتنا ودفعنا لتفقد معانيها.
هذا ما قصده كامو حين تحدث عن الحياة " اللاعقلانية "، وأنه بإدراكنا لهذه "اللاعقلانية" نكون غير متجهين نحو اليأس، بل نحو ترجيديا كوميدية من الخلاص، أو تليين القلب، مبتعدين عن الأحكام الأخلاقية متجهين نحو البهجة والامتنان.
لم يكن الطاعون محاولة لإثارة الذعر فينا، لأن الذعر ليس سوى رد فعل لدرء الخطر، لكن إذا كان الخطر بدوره ظرفًا قصير المدى نتمكن في نهايته من العودة إلى الأمان. لكن الأمان صعب التحقق في ظرف الطاعون، لهذا يقترح علينا كامو أن نحب إخوتنا البشر الملعونين، وأن نعمل بدون أمل أو يأس لتقليل المعاناة. فالحياة مأوى أكثر من كونها مستشفى.
عندما وصل الوباء إلى ذروته حيث كان يموت 500 شخص في الأسبوع، قام القس الكاثوليكي المدعو بانيموكس بإلقاء خطبة تدعي أن الطاعون ما هو إلا عقاب من الله. لكن بالنسبة للطبيب ريو، الذي رأى موت طفل أدرك بشكل أدق أن المعاناة توزع بشكل عشوائي وعبثي، ببساطة غير عقلانية، وذلك أبسط ما قد يقال بحقها.
عمل الطبيب على سماع معاناة من حوله بلا كلل، لم يكن ذلك بطولة، ويقول ريو: "لم يكن كل ذلك عن البطولة"، و يضيف: "قد تبدو فكرة سخيفة، لكن الطريقة الوحيدة لمقاتلة الطاعون هي الأخلاق". فتسأل أحد الشخصيات ما هي الأخلاق، فيجيب الطبيب: "أن أقوم بعملي".
الطاعون "لا يموت"، بحسب كامو، بل إنه "ينتظر بفارغ الصبر في غرف النوم والسراديب والسراويل والمناديل والأوراق القديمة"
اختفى الطاعون في النهاية بعد أكثر من سنة، واحتفل سكان المدينة بنهاية المعاناة، وعادت الحياة إلى ما كانت عليه، أما الطبيب ريو "فقد علم أن تدوينه للأحداث لم يكن بمثابة قصة انتصار نهائية"، وأكّد كامو "أنها بلا شك قصة توثيق لما كان يجب أن نقوم به، وما يجب أن يتم فعله في مواجهة هذا النوع من الذعر". ويكمل إن الطاعون "لا يموت"، بل إنه "ينتظر بفارغ الصبر في غرف النوم والسراديب والسراويل والمناديل والأوراق القديمة".
اقرأ/ي أيضًا: 7 حقائق لا تعرفها عن ألبير كامو
استطاع كامو مخاطبتنا في أزمنتنا، ليس لكونه عرّافًا ساحرًا قادرًا على إدراك ما لم يعرفه علماء الأوبئة، لكن لأنه استطاع تخمين الطبيعة الإنسانية. عرف، ما لم ندركه "أننا جميعًا نمتلك هذا الطاعون في داخلنا، لأنه لا وجود لأحد، لا أحد، منيع في هذا العالم".
اقرأ/ي أيضًا:
الإنفلونزا الإسبانية.. حكاية "الوباء الشاحب" الذي عالجه العالم بالنسيان