24-يوليو-2024
أول فيصل

المجموعة القصصية أول فيصل (الترا صوت)

تتكون المجموعة القصصية "أول فيصل" (دار روافد، 2023) للكاتب المصري أشرف الصباغ، من 10 قصص قصيرة، وتقع في 126 صفحة. وشارع فيصل، لمن لا يعرفه، شارعٌ كبير في مدينة الجيزة، إحدى المناطق المميزة لتجمع السكان من الطبقة المتوسطة والوافدين من بعض الدول العربية.

تحول هذا الشارع، مع مرور الزمن، إلى منطقة عشوائية، يسكن حواريه وأزقته الضيقة والواسعة بشرٌ كثيرون لا ينامون تقريبًا، ذلك أن الشارع نفسه يعج بالحيوية والضوضاء والحركة والسيارات ومئات المحلات والدكاكين، التي تبيع كل شيء في أي وقت. 

وعنوان المجموعة نفسه، على الرغم من أنه يمثل "مكانًا"، إلا أن جملة "أول فيصل" هي جملة تتردد على ألسنة المصريين كالأمثال الشعبية. فهي عبارة ينادي بها سائقو سيارات الميكروباص، ويرددها الركاب عندما يريدون النزول أو التوجه نحو المكان نفسه، وهو عنوان يغري بالقراءة.

يقدّم أشرف الصباغ في مجموعته القصصية نقدًا لاذعًا للمجتمع ومؤسساته من خلال الإضاءة على كيفية عمل هذه المؤسسات وتخلفها وتظاهرها بالتقدّم والحداثة

تأتي قصة "أول فيصل" في الترتيب السادس ضمن قصص المجموعة العشر التي سميت بالاسم نفسه، وتكمن أهمية هذه القصة في طرحها لعلاقة المجتمع بالسلطة من جهة، وعلاقته بمفهوم الإرهاب الذي تطرحه هذه السلطة ووسائل الإعلام، بل وبمفهوم الناس الذي تكوَّن عن الإرهاب، من جهة أخرى. 

تُصوّر القصة كيف تم تفكيك المجتمع وإعادة تركيبه مجددًا، بحيث أصبح كل شيء يُنظر إليه على أنه إرهاب، أو على الأقل يخدمه. وتسلط الضوء أيضًا على كيفية تأسيس الدولة، خلال السنوات الـ10 الأخيرة، مشروعها الضخم المتمثل في مكافحة الإرهاب، والذي حقق لها أهدافها مع المواطنين، بغض النظر عن مستوى هذا الإرهاب، وعن وجوده من عدمه أصلًا. 

تتناول القصة مفارقة إنسانية عجيبة بطلها مواطن من سكان شارع فيصل نفسه، معروف بحبه للبلد وإخلاصه لها. هذا المواطن لا يكتفي بحب البلد، بل يقدّس رئيسها ويحترمه، وينظر إلى المسؤولين على أنهم يبذلون كل جهودهم لتقدم البلد والحفاظ عليه، ولذلك فإنهم يستحقون كل الاحترام والتبجيل. 

والمفارقة هنا هي أجواء الاستقرار وعناية الحاكم برعيته. وربما يكون الكاتب قد طرحها على نسق الحكايات التراثية والشعبية القديمة التي كان يقوم فيه الخليفة أو الوالي بالتنكر والنزول للتجول بين العامة وأبناء الشعب لتفقد أحوالهم والاطمئنان على مصالحهم.

في هذه القصة، اختار الرئيس أن يعمل سائق تاكسي في شارع فيصل الذي يمتد من جامعة القاهرة تقريبًا إلى المنطقة الواقعة بين أهرامات الجيزة والمتحف المصري الكبير. ومع ذلك، فهو يظهر على النقيض تمامًا من هذه المعالم، إذ إن جامعة القاهرة ومرافقها تعني العلم والتعليم والمباني التاريخية الفخمة ومستقبل الشباب والبلاد، وأهرامات الجيزة تمثل تاريخ 7 آلاف عام من ميراث الأجداد. بينما المتحف المصري الكبير هو فخر البلاد الذي سينافس به المصريون أكبر متاحف العالم بما يحويه من معجزات. لكن "شارع فيصل" تحديدًا، بعشوائيته وصخبه وخلوه من إشارات المرور وأماكن مرور المشاة، هو تحديدًا الذي يصل بين هذه المعالم الثلاثة!

بطل القصة هو نموذج المواطن الصالح الشريف بالنسبة لأي دولة، فهو يرى ما تراه ويسمع ما تقوله دون جدال أو شك، مطيع ومؤمن. وليس ذلك فقط، بل إن أم البطل، السيدة المسنة، كانت تؤنبه وتنهال عليه بالسباب إذا انتقد أداء الحكومة أو قال كلمة في حق الرئيس الذي تقدسه الأم وتجله وتعتبره الراعي الأكبر لها ولكل المواطنين.

في اللحظة التي ينزل فيها الرئيس متخفيًا، وهو يقود سيارة التاكسي، يتقاطع معه البطل كزبون أو راكب. يقول البطل: "أوقفتُ أول تاكسي صادفني. وألقيت تحية الصباح على الرغم من أننا كنا في منتصف النهار. رد السائق بصوت خافت من دون حتى أن ينظر ناحيتي. طلبت منه أن يتجه إلى بولاق الدكرور، فرد بهدوء وبصوت خافت بالموافقة. حاولت الحديث معه عن أي شيء إلا أنه كان يرد باقتضاب من دون حتى أن ينظر ناحيتي من خلال المرآة الأمامية. كان يفعل كل شيء على خلاف سائقي التاكسي الذين يجيدون الرغي والكلام الفارغ وفتح الحوارات وتصديع الدماغ. وفجأة وجدته يسألني وهو يضحك نفس الضحكة الجميلة التي نحبها جميعًا: إزيك؟ إنت بتشتغل إيه؟!".

وتبدأ الشكوك في اجتياح عقل المواطن الذي تربى على حب الوطن والرئيس ومكافحة الإرهاب. يسيطر عليه الإحساس بالخطر تجاه هذا السائق الذي يشبه الرئيس حدّ التطابق، بل ويقول إنه الرئيس: "فوجئت بأنه يشبه سيادة الرئيس، ويتحدث بنفس صوت الرئيس، ونفس ضحكته الحلوة الجميلة المطمئنة، وملامحه الهادئة التي تبث الثقة والأمان في النفس. ولكن مهما فعل، فأنا لستُ مغفلًا، ولا حمارًا لكي أنخدع بهذا التمويه". 

ويواصل البطل الحكي: "قلت له: معقول أن تكون أنت سيادة الرئيس؟ فراح يضحك ويؤكد لي أنه سيادة الرئيس، وأنه يفعل كل ذلك من أجل الشعب، ومن أجل أن يطمئن على صحة الشعب وحياته، ويختبر حبه. طلبت منه أن يتوقف قليلًا لأنني لا أصدق نفسي. وفجأة خطرت لي فكرة. قلت له: لو كنت أنت سيادة الرئيس فعلًا، فأرجو أن تعود بي إلى بيتنا في أول فيصل لكي تراك أمي وتسلم عليك. فهي سيدة في التسعين من عمرها وتحبك يا سيادة الرئيس، وتحفظ خطبك كلمة كلمة".

وبدأت "ثمار" مكافحة الإرهاب تظهر في تصرفات البطل الذي أدرك أنه أمام إرهابي يتخفى في صورة الرئيس لكي يعتدي عليه. وهنا جاء دوره في مجابهة الإرهاب، فراح يستدرجه إلى بيته باستعطاف إنساني، مدّعيًا أنّ والدته ذات التسعين عامًا تحبّه وتريد أن تراه قبل أن تموت، بينما هو مُقتنع تمامًا، في قرارة نفسه، أنّ هذا السائق إرهابيّ جاء ليقتل الرئيس.

تكشف لنا غالبية القصص عن نسق نقدي لاذع في إطار كوميدي ساخر دون مباشرة فجة أو خطابية منفرة

وبالفعل، ينجح في استدراجه عبر تفاصيل كثيرة لينتهي الأمر بحفل صاخب لمكافحة الإرهاب والقضاء على الإرهابي الذي جاء ليقتل الرئيس. وكم كان فخر هذا المواطن وبقية المواطنين كبيرًا عندما قضوا على الإرهابي أداءً للواجب ودفاعًا عن الرئيس وحمايةً للبلد من "الإرهاب". 

تبدأ هذه المجموعة القصصية بقصة "راوتر" التي تكشف عن جانب غريب من التغيرات التي أحدثتها التكنولوجيا في حياتنا الخاصة، وما تسببت فيه من تباعد اجتماعي "حقيقي" بين الناس عمومًا، وبين أفراد الأسرة الواحدة على وجه الخصوص. وربما تكون الجمل التالية من القصة مدخلًا جيدًا لرصد جميع التحولات:

"انقطع الاتصال بالإنترنت، فلم يشك الأب للحظة بوجود عطل في جهاز الراوتر. ذهب إلى الصالة فوجده ملقى على الأرض، فأعاده إلى مكانه. ثم ذهب إلى المطبخ لإعداد فنجان من القهوة وشربه في الصالة التي لم يرها منذ فترة، ريثما يعود الاتصال بالإنترنت.

لكنّه فوجئ بابنه الخارج من غرفته غاضبًا، حتى وجد أباه فارتمى في أحضانه. الأب الذي يحب ابنه أكثر من أي شيء في العالم، فكلاهما تبادل السؤال عن بعضهما البعض.

أخبر الابن أباه أنه تخرج وعمل في شركة كبيرة، بينما الأب أحيل على معاش منذ سنتين. انضمت إلى هذه الجلسة الحميمية ابنتاه، والجميع قاموا باحتضان بعضهم البعض، وكيف أنهم جميعًا مفتقدين بعضهم.

سرعان ما سمعوا صوت باب الحجرة، فإذا بالزوجة تخرج مندفعة نحو أحضان الزوج، التي كانت تظن أنه خارج مصر! تواعدوا بأن يقرروا اللقاءات بينهم وأن يتزاورا مرات أخرى.

لكن سرعان ما عادت إشارات الواي فاي، فصافح بعضهم البعض سريعًا حتى يعودوا إلى غرفهم. اقترح الأب أن يأخذوا صورة جماعية، فقال الابن: ابني قال (مافيش وقت، يا بابا للحاجات دي)، واقترح أن يصور كل منا نفسه صورة (سيلفي) ويرسلها له، لكي يقوم بمعالجتها ببرنامج (الفوتوشوب) ويحولها إلى صورة جماعية ويعيد إرسالها إلينا لننشرها على صفحاتنا في وسائل التواصل الاجتماعي.  أغلقتُ باب غرفتي وأنا في قمة السعادة للقائي بهؤلاء الناس المهذبين الطيبين".‬‬‬‬

ثمة مفارقة وتشابه مع الواقع حدّ التطابق لما حدث في شارع فيصل في منتصف شهر تموز/يوليو الجاري؛ فإذا ربطنا القصة الأولى "راوتر" التي تدور حول آثار التكنولوجيا السلبية والإيجابية، بقصة "أول فيصل" في المجموعة نفسها، سنجد مطابقة أو مفارقة ظريفة، إذ قام مجهولون في شارع فيصل، باختراق شاشات عرض الإعلانات، وعرضوا صورًا وكلمات مسيئة للنظام المصري ورئيسه، على الرغم من أن المجموعة نشرت عام 2023.

لقد هزت الحادثة مصر، وشغلت وسائل الإعلام والسوشيال ميديا داخل مصر وخارجها، وهي حادثة تنطوي على مفارقات تشبه المفارقات الواردة في قصة "أول فيصل"، وهذا حديث يحتاج إلى مقال آخر حول طبيعة الإبداع من حيث التحليل أو الاستشراف.

مجموعة "أول فيصل"، بشكل عام، تتناول شخصيات مختلفة من شرائح الطبقة الوسطى يعيشون حياة بائسة ويمارسون الاحتيال قدر الإمكان على الحياة، ولا يتوانون عن المكر والخبث والتواطؤ. وهم، في الوقت نفسه، يخوضون حروبًا يومية من أجل تأمين قوت يومهم.

وعلى الرغم من أن كل قصة لها موضوع مستقل وليست "متتالية قصصية" كما هو الحال في "أبواب مادلين" للكاتب نفسه، إلا أنه يجعلك تشعر وكأنها من نفس النسيج، حيث إنه يقدم نقدًا للمجتمع ومؤسساته على حد سواء من خلال تسليط الضوء على كيفية عمل هذه المؤسسات وبيروقراطيتها وتخلفها وتظاهرها بالتقدم والحداثة، كما ورد على سبيل المثال في قصة "المرأة ذات المعطف الكاكي". كل ذلك في حين أن المؤسسات وغيرها من الهيئات لا تمت للتقدم والحداثة بأي صلة، وكل ما نراه ما هو إلا قشور واهتمام مرضي بالمسميات دون تركيز على الجوهر أو الدور الحقيقي لها. 

يتنقل الكاتب في كل قصة، وفي كل حكاية وموقف، بين عوالم مغايرة ومختلفة ومتناقضة عبر كوميديا مؤلمة أحيانًا، ومثيرة لابتسامات الأسى في أحيان أخرى. وتكشف لنا غالبية قصص المجموعة عن نسق نقدي لاذع في إطار كوميدي ساخر دون مباشرة فجة أو خطابية منفرة.

استخدم الصباغ لغة بسيطة وسلسة وهادرة، ممزوجة بألفاظ عامية أحيانًا وأمثال شعبية في أحيان أخرى. كما يعتمد على الجمل القصيرة في الأغلب، لذلك تجد السرد شيقًا لا يشعرك بالملل، حتى وإن كان عدد بعض القصص يصل إلى 15 صفحة، مثل قصة "حارس الدباسات". وعلى الرغم من ذلك، تظهر اللغة الصحفية الساخرة والرصينة في آن معًا للكاتب، مثلما في قصة "البروليتارية الكلبة".

ويتميز هذا العمل المكون من 10 قصص بالسخرية في المقام الأول. والسخرية هنا سيدة الموقف، ذلك أن الكاتب يسخر من كل شيء ومن أي شيء، ولا يخلو الأمر من خفة الظل التي تميز جانبًا من عالم الكاتب الذي يقوم على الكوميديا السوداء وكوميديا المفارقة.

وإذا كانت قصص المجموعة تتعرض لمواقف وحالات يومية بسيطة أو عابرة، يتم رصدها بقلم الكاتب القادر على التقاط أدق التفاصيل، فإن ذلك يحدث عبر نعومة وسلاسة من دون إقحام أو اقتحام.

اللافت في هذه المجموعة استعراض الكاتب معرفته العميقة بشوارع القاهرة وأزقتها الملتوية ودمجها في البناء السردي دون تطفل على النص، ما يضيف للأحداث واقعية أكثر. ويتكرر هذا في أغلب أعمال أشرف الصباغ، فالمكان بطل رئيسي، ربما نابع من اهتمامه بطبقات المجتمع وأهمية تشكيل الأفراد في ضوء الأماكن التي يعيشون فيها.

وعلى الرغم من إقامة الصباغ في روسيا قرابة 40 عامًا، إلا أنه صحفي في الأساس، يشتبك يوميًا مع قضايا المجتمع المصري والناس والواقع المؤلم، يقرأ الأخبار بشكل يومي، ويظهر هذا جليًا في فيض الأفكار والمشاعر المرتبطة مع حيوات المصريين بشكل واضح، ولذلك جاءت أغلب القصص شديدة الواقعية في موضوعاتها، كأنها خبر يحرره لإحدى الوكالات، لصدقها الشديد وضربها في الأعماق المؤلمة.

تتميز المجموعة القصصية بالسخرية في المقام الأول، ذلك أن الكاتب يسخر من كل شيء في إطار من الكوميديا السوداء وكوميديا المفارقة

من الواضح أن "الرواية" تسيطر، في الوقت الحالي، على فضاء الكتابة لعدة أسباب أهمها المسابقات والجوائز والترجمات. غير أن هذا جاء على حساب الأشكال الإبداعية الأخرى. ومع ذلك، فالقصة القصيرة بدأت تأخذ أشكالًا مختلفة. ففي قصص الصباغ القصيرة، على سبيل المثال، تكاد تكون إحدى القصص عالمًا روائيًا كاملًا، ما يُمكن اعتباره نسقًا قصصيًا في مواجهة تسيد الرواية على فضاء الكتابة. وهو ما نراه أيضًا في مجموعته القصصية "حبيبتي طبيبة العيون السيريالية" التي تتكون من خمس قصص لا غير، وتتميز ليس فقط بتعدد الأماكن والشخصيات، بل وبوفرة الأحداث وتنوعها أيضًا. 

ويبدو أن القصة القصيرة عند أشرف الصباغ تتخذ معايير مختلفة نسبيًا عن القصة القصيرة المعتادة بمعاييرها الصارمة التي اعتدناها. لكنها لا تزال تمتلك طعم ومذاق القصة القصيرة بعالم أكثر ثراء، وأحداث مشوقة ومحملة بالهم الإنساني.

يذكر أن أشرف الصباغ كاتب وصحفي مصري تنوعت مجالات إنتاجه في الأدب والصحافة، وتميزت بالغزارة ما بين كتابة الرواية والقصة القصيرة، إلى جانب ترجمة العديد من الأعمال الأدبية والنقدية والفنية من اللغة الروسية، عدا عن بعض الكتب حول الأوضاع في روسيا إبان فترة التسعينات من القرن العشرين.

صدر له في القصة القصيرة: "قصيدة سرمدية في حانة يزيد بن معاوية" (دار النهر، 1996)، و"خرابيش" (دار النهر، 1997)، و"العطش" (دار سما، 1997 - صدرت في طبعة ثانية عن هيئة قصور الثقافة عام 1999)، و"صمت العصافير العاصية" (دار العين، 2014). 

وفي الرواية: "مقاطع من سيرة أبو الوفا المصري" (دار الدار، 2006)، و"رياح يناير" (دار العين، 2014)، و"شرطي هو الفرح" (دار الآداب، 2017).