يلاقي موضوع الجمال أهمية بالغة، إذ إنه بقدر ما هو مفهوم غامض ومرن، فإنه قائم على افتراضات متينة، بأنه شيء أصيل وثابت وتاريخي. وتتجسد علاقة الجمال الوثيقة بالسلطة، في كونه موضعًا واسعًا لتطبيق التخيلات الاجتماعية حول أشكال مختلفة من اللامساواة، فهو لا يرتبط بالأبعاد الجندرية مثلًا فقط، ولكن بالتخيلات العرقية والإثنية والطبقية والجنسانية. وقد لاقى هذا الموضوع انشغالًا نظريا وبحثيًا واسعًا على أية حال، وكتبت مؤلفات عدة في التأريخ للجمال، لكن ماذا عن تاريخ القبح؟
بقدر ما تم تعميم نماذج ثابتة وحاسمة للجمال، كان القبح على العكس من ذلك تمامًا، صفة بمعايير أقل صرامة وانضباطًا، وأقل تبعية للقواعد
حسب الفيلسوف واللغوي والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو، فإنه وبقدر ما تم تعميم نماذج ثابتة وحاسمة للجمال، فقد كان القبح على العكس من ذلك تمامًا صفة بمعايير أقل صرامة وانضباطًا، وأقل تبعية للقواعد المحددة سلفًا. إذ يمكننا دائمًا تخيل ما هو جميل، ضمن السياق التاريخي لهذه المعايير، لكن إعطاء تعريف ملموس للقبح ليس عملية سهلة، وربما لن تكون ممكنة.
لقد كان الجمال بفعل هذا التحديد الأحادي وهذه المعايير الصارمة، على عداء فج مع التنوع الإنساني، كما يرى جورج فيغرلو في كتابه الموسوعي تحت عنوان" تاريخ الجمال"، الصادر عن المنظمة العربية للترجمة - 2011، لكن القبح أسقط أصلًا من كونه جزءًا من التنوع الإنساني، وتم ربطه بثنائيات الخسارة والربح والنفع والضرر والحاجة والفائض، إلخ.
اقرأ/ي أيضًا: "ديمقراطية الكربون" لتيموثي ميتشل.. لعنة النفط الشاملة
وأتاحت مرونة مفهوم القبح له، أن يتضمن عددًا واسعا من التصنيفات والأحكام النمطية. فهو مرتبط بازدراء أعراق معينة لا تتناسب مع نماذج الجمال المعممة، كما أنه مرتبط بتهميش المعاقين والمرأة القوية والرجال غير الأقوياء، والأشخاص "غير النافعين" إجمالًا، وبالتأكيد فقد كان مفهوم الجمال حكرًا في مرحلة ما على المعايير الجنسية "الغيرية"، مقابل العداء الحاسم للمثلية الجنسية.
هل هناك تاريخ للقبح؟
لم يكن هناك أي اهتمام بتاريخ القبح، رغم كل الأدبيات الموجودة عن تاريخ الجمال، الذي تم الإقرار أنه شيء متغير. ربما بسبب هذا الافتراض السائد، أن القبح هو نقيض الجمال.
وقد طور أمبيرتو إيكو، الذي يرفض هذا التضاد، نزعة باتجاه كتابة تاريخ القبح بالفعل، في موازاة كتابة تاريخ الجمال، وقد انتقل الفيلسوف والروائي الإيطالي نفسه من كتابة مؤلفه المعروف "تاريخ الجمال" History of Beauty، سيكر آند واربيرغ - 2004، إلى واحد من أكثر كتبه إثارة للجدل، وهو "في القبح" On Ugliness، هارفيل سيكر- 2007، الذي يعتمد فيه على مجموعة كبيرة ومتنوعة من الشواهد الفنية، التي عرضت في محتواها تطور مفهوم القبح في تاريخ الفن الأوروبي.
كان السؤال الذي شغل إيكو في الكتاب الأول ما هو الجمال؟ لكنه على ما بدا، أدرك أن سؤال "ما هو القبح" لن يكون ذا جدوى، وسرعان ما انتقل إلى محاولة فهم التغيرات الحاسمة التي طرأت على هذه الكمية الهائلة من المعايير التي تقوم عليها صفة قبيح، من خلال تطور المدارس الفنية في التاريخ الأوروبي.
يتتبع إيكو من خلال مئات الاستشهادات الفنية، كيف تم توظيف القبح لإنتاج فن جميل، حتى أن كثيرًا من المدارس الفنية الأوروبية، منذ عصر النهضة، كما يورد، تعاملت مع القبح باعتباره مادة جمالية مجردة، على غرار الفن القوطي المخيف مثلًا، وتجلياته في معمار النهضة الأوروبية.
لقد كان الجمال بفعل المعايير الصارمة، على عداء فج مع التنوع الإنساني بمفهومه الواسع والمرن
رغم النفور الظاهري منه، فإن ثمة نزعة إنسانية لتقبل القبح، أو التصالح معه، وللميل باتجاهه، واعتباره جميلًا. قد تكون هذه هي مجادلة الكتاب الصادمة. إذ إن مجموع الصفات التي كانت دائمًا توضع باعتبارها رمزًا للأشياء القبيحة، مثل تلك الصورة الوحشية للشيطان، كانت غالبًا ما تجذبنا.
ليس القبح نقيضًا للجمال، حسب إيكو، وربما يكونان معًا على مقدار واحد من الجاذبية، إذ يجذبنا الجمال مباشرة باعتباره صفة مريحة ومقبولة، بينما يجذبنا القبح باعتباره شيئا مخيفًا وصادمًا.
يستشهد الفيلسوف الإيطالي من أجل تعزيز مجادلته، باقتباسات كثيرة من الأدب والفكر الأوروبي والإغريقي، في نفس الوقت الذي يعرض فيه صورًا للوحات ومنحوتات جسدت هذه "الصفات المرفوضة في العلن" والتي ترمز إلى الشر، غير أننا نميل إليها دائمًا.
كما أنه يستشهد بمجموعة من المفاهيم اليومية في حياة الإنسان الأوروبي منذ عصر النهضة، مثل الشهادة والتضحية المقدسة.
وكما يبين إيكو، فقد كانت تتكرر بشكل مستمر تلك الاقتباسات في الأدب الأوروبي، المستغربة من إصرار الفن الكنسي على وضع تماثيل قبيحة، وكان السؤال عن السبب ملحًا دائما. مع ذلك، فقد أعدم كثيرون في محاكم التفتيش بعد اتهامهم بالسحر، بسبب قبحهم.
سيكون قارئ كتاب "تاريخ القبح" أو "في القبح"/On Ugliness حسب العنوان الذي اختاره مترجم النسخة الإنجليزية من الكتاب، أكثر انجذابًا وإثارة بالتأكيد، مما ستكون حاله لو قرأ كتاب "تاريخ الجمال"، لكنه سيقر على الأغلب، أن محاولة الروائي والأكاديمي المعروف في التأريخ للجمال، باعتباره شيئًا ديناميكيًا ومتغيرًا في السياق والوقت، هي أكثر تماسكًأ من كتابه الأخير.
تأريخ القبح أم تأريخ الغرائبية؟
يتذكر من يطلع على الأمثلة الكثيرة التي عرضها الفيلسوف الإيطالي في كتابه، أسئلة يومية يتعرض لها معظمنا. لماذا ننجذب إلى أفلام الرعب مثلا؟ أو إلى صور تلك المخلوقات الغريبة التي نعتقد أنها قادمة من الفضاء؟ أو الأشخاص الذين يسقطون من أماكن عالية جدًا، وهم يصرخون في لحظاتهم الأخيرة في الحياة. ويبدو أن الكتاب لا يحاول تقديم أي إجابة على هذا التساؤل، كما أنه لا يحاول فهم السبب الذي جعل صور الشيطان القبيح والمخيف في الفن الكنسي الأوروبي جميلة إلى هذا الحد؟ ولكنه يكتفي بملاحقتها، وإيرادها بشكل مثير للاهتمام.
رغم النفور ا الظاهري منه، فإن ثمة نزعة إنسانية لتقبل القبح، وللميل باتجاهه، واعتباره جميلًا
قد يجد القارئ المنبهر بالتأكيد من شغل إيكو المثير للاهتمام، أن تمثيل "القبح" في الفن قائم على تجريده. وهذا ما يجعله مثيرًا، بقدر ما هو مرفوض. ولن يكون أي منا سعيدًا على الأغلب، لو أن المخلوقات المخيفة التي نأكل الفشار مستمتعين بينما نشاهدها في الأفلام، تخرج إلى العالم الحقيقي. وإذا كانت ثنائية المجرد المقبول والمجسد المرفوض تذكر بشيء، فإنها تذكر ربما بفكرة الغرائبية، التي ارتبطت ارتباطًا وثيقا بالتاريخ الأوروبي.
اقرأ/ي أيضًا: برامج الـ"Make Over".. هوس الجمال والتنميط
ليس القبح نقيضًا للجمال كما اتضح، وعلى العكس فبالنسبة لأمبرتو إيكو، فإن مفهوم القبح أكثر مرونة بكثير من أن يكون قبالة مفهوم أحادي مثل الجمال. ولعل من المفارقة، حسب المؤلف، أن مفردة القبح في اللغات الغربية، وأصولها اللغوية، عنت غالبا الخوف والوحشية، بينما ترتبط مفردات الجمال بالقبول والتقدير. ومن الواضح أن هناك ملاحظات عدة على هذا الاستنتاج، إذ إن مفردات الجمال المتنوعة، غالبًا ما ارتبطت في بعض اللغات بالخوف أيضًا. مثل "روعة، رائع" ومرادفاتها في العربية.
وإذا كان الجمال المعياري الذي يتم تعميمه بفعل علاقات السلطة عدوًا للتنوع، كما يورد إيكو في أكثر من موضع من كتابه الأول عن الجمال، فإن مجادلته قامت على سردية لا تقل عداءً للتنوع بالتأكيد. لقد بدأ بالمسار التقليدي جدًا، لتاريخ الفن والفكر الإنسانيين كما رآهما المستشرقون الأوروبيون الأوائل، من الفن والفكر اليوناني والروماني، ثم إلى بدايات النهضة مباشرة، وهي القفزة الشهيرة التي طالما أجادها المؤرخون الأوروبيون. وكذلك فإن معظم استشهاداته كانت متعلقة باللغات والفنون الأوروبية.
لم يقدم إيكو تاريخًا للقبح بالتأكيد، مع أن العنوان الأصلي للكتاب كان كذلك، فهو لم يعتمد على مسار زمني واضح تمامًا، بل يكتفي بملاحقة توظيف القبح في المدارس الفنية فقط، والأوروبية منها حصرًا. وهو بالتالي لم يقدم حتى تاريخًا للقبح في المخيال الأوروبي حتى، وربما يصح الحديث فقط أنه قدم تاريخًا لعلاقة الفن الأوروبي بالغرائبية.
لقد تطور القبح بشكل ديناميكي في التاريخ الإنساني، وترافق تطوره مع التغيرات الحاسمة التي طرأت على طبيعة التفكير حول الجسد، وبتطور المقولات حول علاقتنا مع الكون والطبيعة والحيوانات، ودائما ما كان هذا التطور مرتبطًا بأنواع صارمة من التهميش. ولا يبدو أن كتابة تاريخ للقبح، يمكن أن تتجاوز ذلك.
مع هذا، يبقى كتاب أمبريتو إيكو، واحدًا من الكتب الصادمة بالفعل والمثيرة جدًا للاهتمام، وعتبة للتفكير في أسئلة لا انفكاك منها.
اقرأ/ي أيضًا: