معبّر وحزين مشهد عودة صحفي فلسطيني من تغطية المواجهات مع جيش الاحتلال أو من بيت عزاء بشهيد، ليجد عناصر أمن السلطة الفلسطينية يدهمون مكتبه ويلاحقونه. بكل فجاجة هذا المشهد، حصل مع فريق صحيفة العربي الجديد في رام الله.
قبل أيام تعرض مكتب العربي الجديد في رام الله للدهم من عناصر أمن عرّفوا عن أنفسهم على أنهم من جهاز المخابرات الفلسطيني، المداهمة التي تكررت خلال عطلة الأسبوع، قال وكيل وزارة الاعلام إنها على خلفية "قرار بتجميد عمل العربي الجديد في مناطق السلطة بسبب مادة صحفية"، مقالة الرأي المقصودة كتبتها شابة من مصر في ملحق شبابي في الجريدة، تتناول سلوك عناصر الأمن مع المعتقلين السياسيين في سجون السلطة، قيل هذا الكلام في وزارة الإعلام وعلى مسمع ممثل عن نقابة الصحفيين.
لجأ الصحفيون في العربي الجديد إلى النيابة العامة عبر محاميهم للاطلاع على أمر التجميد والإغلاق، ليباشروا إجراءاتهم القانونية ولمعرفة وضعهم القانوني، لم تسلّم النيابة العامة محامي الصحفيين شيئًا، فقرروا العودة إلى مقرهم للعمل في أجواء من التوتر والتعرض لهم على صفحات التواصل الاجتماعي.
بعد أيام تغير وزارة الاعلام أقوالها ،قائلة إن هنالك مشكلة في طلب الترخيص الذي قدمته الصحيفة لعمل مكتبها وعملها في مناطق السلطة، وبالتالي فعمل المكتب مجمّد حتى إصدار التصريح. مع العلم أن صحفيي العربي الجديد عملوا ويعملون وفق القانون الذي ينص على أن عدم رفض طلب الترخيص خلال شهرين من تقديمه يعني موافقة ضمنية على العمل حتى إتمام الترخيص، والثابت أيضا أن مراسلي الصحيفة قابلوا مسؤولي السلطة والناطقين باسمها وأنجزوا موادهم الصحفية معهم، قبل استكمال إجراءات الترخيص وهذا وضع طبيعي جدا في فلسطين. أما سبب تغيير الأقوال والمواقف وعدم انتهاج خطوات قانونية فمتروك لوزارة الإعلام لتوضحه.
الخلاصة اليوم أن التضييق مستمر على الصحفيين الزملاء، والسلطة تتجنب التعامل مع الأمر قانونيًا وبطرقه الرسمية والشرعية. والطريف هنا أن الزملاء في العربي الجديد ينتهجون سلوكًا مفرطًا في التزامه بالقانون، في حين تمارس السلطة سلوكًا خليطًا من الشخصنة مع أشكال من التصرفات العصاباتية.
الأسئلة هنا كثيرة: لماذا ترفض السلطة المضي نحو إجراء قانوني وتحرك من خلال نيابتها العامة؟ من هو الجهاز الأمني المسؤول في قضايا كهذه؟ هل هو جهاز المخابرات؟ أم الشرطة؟ وما شكل التنسيق بين وزارة الإعلام وجهاز المخابرات؟ وهل يصح وجود تنسيق من هذا النوع؟
ليس النقاش هنا في دولة مستبدة كأي دولة، هنا حالة فلسطينية علاقتها مع الإعلام من المفترض أنها تطورت بشكل مميز ومختلف، هنا تجربة من المفترض أنها أفرزت ثقافة إعلامية تقدر قيمة هذه الأداة ودورها في نضال شعب اشتغل الإعلام الدولي لعقود على شيطنته وتجريمه، ثم يأتي هو ليضيّق على وسائل إعلام تناصر الفلسطينيين وتحتل قضيتهم صدارة اهتماماتها مع منحها البعد العربي في زمن الانكفاء عن القضية الفلسطينية.
إقرأ/ي أيضًا: الرقيب الإسرائيلي الذي يطاردنا
اللافت هنا أيضًا هو موقف الصحفيين ممثلين بنقابتهم وتجمعاتهم ومنابرهم، النقابة لم تصدر حتى الآن حتى بيان إدانة، لم تنظم وقفة احتجاجية ولم تتدخل في الأمر إلا من موقع الشاهد الساكت، والصحفيون باستثناء التضامن الشخصي ومقال هنا وهناك لم يقدموا موقفًا معترضًا، رغم أنهم أفضل من يعرف أن الاستفراد بصحيفة أو وسيلة إعلامية اليوم دون تكاتف من الوسط الصحفي، يعني أنهم سيكونون في موقع تلك الصحيفة بعد حين دون أي سند من جسم صحفي يفترض أنه فاعل وحيوي. السكوت اليوم يجعل الاعتراض غدًا أصعب.
جزء من النقاش الذي ثار حمل انتقادًا للصحيفة على توقيت نشر المقال في ظل تصاعد الهبة الفلسطينية ومحاولة اختلاق حالة وحدة داخلية ولو شكلية خلال المواجهات، لا شك في حق من طرحوا السؤال بطرحه، ولكن السؤال الأهم هو عن استغلال السلطة لهذه الظروف لممارسة ضغوطات من هذا النوع على الصحفيين والانشغال بمقال عابر هنا أو هناك. ثم أليس من المهم التساؤل اليوم عن طبيعة متابعة السلطة للإعلام الفلسطيني والعامل في فلسطين وكيف تقيّم عمله؟ ألا نلحظ أن السلطة غائبة تمامًا عن المشهد الإعلامي وتنظيمه وإطلاق مبادرات وطنية لتحسين أدائه في أوقات الاضطراب، هذا الغياب يختفي ليحل محله حضور ويقظة عند أي مادة صحفية أو مقال ناقد للسلطة وأدائها، يعقبه إجراءات تضيقية على الصحفيين وعملهم.
في المحصلة لن توقف تلك المضايقات عمل الصحيفة، هذا بديهي، وعلى الأغلب لا يضرها إجراء السلطة فعلًا، ولكن الحالة الإعلامية الفلسطينية تخسر دوما بمرور حوادث كهذه، وتنزل درجة في سلم الحريات، حرية العمل الصحفي وحرية المثول أمام أجهزة تلتزم القانون وتسير في ضوئه ووفق محدداته، وحرية النوم بهدوء بعيدا عن اتصالات من أرقام مجهولة، وحرية التنقل والعيش بدون جولات سيارات سوداء حول بيت الصحفي أو مقر عمله.
إقرأ/ي أيضًا: مصر..إعلام برتبة شريك في الفساد