"الجنين هو ملك المجتمع بأسره. أي شخص يمتنع عن إنجاب الأطفال هو يائس يتخلى عن قوانين الاستمرارية الوطنية"، نيكولاي تشاوشيسكو، الرئيس الروماني الأسبق.
خلال عهد الدكتاتور الروماني تشاوشيسكو، سنّ قوانين تجرم تنظيم النسل، وتجبر النساء على الإنجاب بصورة مستمرة!
عندما تولى تشاوشيسكو، الدكتاتور الروماني، الحكم عام 1965 كان لدى رومانيا معدل مواليد منخفض، وواحد من أعلى معدلات الإجهاض والطلاق في أوروبا الشرقية، فمنع تشاوشيسكو وسائل منع الحمل والإجهاض بشكل صارم.
اقرأ/ي أيضًا: الحرديم.. مئات آلاف الإسرائيليين وظيفتهم الإنجاب
آمن تشاوشيسكو بأن النمو السكاني سيؤدي إلى نمو اقتصادي، فحظر كل وسائل منع الحمل، وسن قوانين تقييد الطلاق، وقدم حوافز مالية للأمهات العاملات، وخفض سن الزواج إلى 15 سنة، ومنح الأمهات ميداليات على أساس عدد الأطفال لديهن، ولم يسمح بالإجهاض إلا للأم التي تعدى سنها 40 عامًا، أو لديها بالفعل أربعة أبناء في رعايتها، أو كان لديها صلات بالحزب الشيوعي.
وجندت الدولة عددًا من أطباء النساء يدخلون المدارس وأماكن العمل، ويحققون مع النساء غير الحوامل أو المشكوك في تعرضهن للإجهاض. أطلق على هؤلاء الأطباء "شرطة الحيض". وفي عام 1977، فرضت ضرائب على الناس إذا كانوا بلا أطفال!
نهى تشاوشيسكو عن التربية الجنسية، وصنفت كتب النشاط الجنسي البشري والتكاثر على أنها "أسرار دولة"، ومع حظر وسائل منع الحمل، كان على الرومانيين تهريب الواقي الذكري وحبوب منع الحمل، ورغم منع الإجهاض، إلا أن 60% من حالات الحمل آنذاك انتهت بالإجهاض.
انفجار معدلات المواليد
روجت الدولة لأنها يمكن أن تقوم بعمل أفضل من الوالد عندما يتعلق الأمر بتربية الأطفال، واستخدمت الدولة مهنيين صحيين مكلفين بتشجيع الآباء بالتخلي عن أطفالهم. وكانت النساء يفحصن كل شهر إلى ثلاثة أشهر، بحثًا عن علامات الحمل في ظل وجود رقابة وتفتيش شرطة الحيض، ويمكن للمرأة الحامل التي فشلت في إنجاب طفلها في الوقت المناسب، أن تتوقع استدعاءها للاستجواب. وإذا مات طفل في منطقة ما، يخصم ما بين 10% إلى 25% من راتب أطباء هذه المنطقة، إلا أن الوفيات كانت متوقعة، فلم توجد هناك أدوية أو حليب، وكانت الأسر فقيرة.
لكن لا يتعين على المرأة أن تكون حاملًا لتخضع للفحص الدقيق، فقد فرضت ضريبة على النساء اللواتي لا ينجبن، تشمل نحو 10% من رواتبهن الشهرية.
أدت سياسة تشاوشيسكو إلى ارتفاع معدلات المواليد بشكل كبير خلال سنوات 1967 و1968 و1969، ولم يستطع الكثير من الآباء تحمل تكاليف أطفالهم الجدد، ما أدى إلى إيداع عدد كبير من الآباء لأطفالهم في دور الأيتام، بهدف إعادتهم مرة أخرى، عندما يكونون كبار السن بما يكفي لكسب لقمة العيش.
كان يشغل هذه الدور أيضًا ذوو الاحتياجات الخاصة والمصابين الأمراض العقلية. وقد تعرض هؤلاء جميعًا للإهمال المؤسسي، والإيذاء البدني، والجنسي، وتعاطي العقاقير قسرًا للسيطرة على السلوك.
وكانت نساء رومانيا يضطررن للإجهاض غير القانوني آنذاك، في الوقت الذي كان يكلف فيه الإجهاض غير القانوني راتب شهرين إلى أربعة أشهر، لذا إذا حدث خطب ما كان النساء يتورعن عن طلب المساعدة الطبية في الوقت المناسب.
وفي هذا الصدد، يقدر بأن نحو 10 آلاف امرأة توفيت بسبب مضاعفات هذا الإجهاض، وتشوه عديد منهن بشكل دائم، كما ارتفعت معدلات وفيات الرضع في البلاد.
دور أيتام مزرية
من جهة أخرى كانت دور الأيتام تعاني وضعًا مزريًا، نتيجة لتدهور الوضع الاقتصادي، فكانت الكهرباء والحرارة مقطوعة في معظم الأحيان، وكان الطعام نادرًا، لذا يُروى أنه كان طبيعيًا أن تجد عشرات الأطفال يتقاتلون على قطع من الخبز عليها بعض الجبن.
ورغم ندرة طعام الأطفال إلا أن عمال دور الأيتام كانوا يأخذون من حصصهم، وكانت الغرف صغيرة حجم وتستخدم لإيواء ما يصل إلى 12 طفلًا، وكان يتم تكليف مقدمو الرعاية برعاية كل واحد فيهم لنحو 15 رضيعًا في كثير من الأحيان.
كان الأطفال المصابون بالإعاقات الأسوأ حالًا، إذ كانت المستشفيات تفتقر إلى الأدوية ومرافق الغسيل، وكان الاعتداء البدني والجنسي شائع، وكانوا في كثير من الأحيان مربوطين بأسرتهم أو مقيدين في ملابسهم، وأحيانًا كثيرة كان الأطفال يقضون يومهم عراة لأن الموظفين فشلوا في جعلهم يرتدون ملابسهم، وكثيرًا أيضًا ما جلس الأطفال في بولهم.
لم يتم تدريب الممرضين الذين عملوا في هذه المؤسسات بشكل صحيح، وغالبًا ما كانوا يسيئون معاملة الأطفال، وكان يتم تحميم الأطفال في مياه استحمام قذرة يجمعون فيها أكثر من طفل في وقت واحد، وكان يتم حلاقة جميع رؤوس الأطفال، حتى الفتيات منهم، ما كان يجعل من الصعب التمييز بينهم.
الكثير من الأطفال كانوا متأخرين في الإدراك، حتى أن الكثير منهم لم يكونوا يعرفون كيف يطعمون أنفسهم. وبسبب سوء المعاملة، تعلم الأطفال الأكبر سنًا التنمر وتعنيف الأصغر سنًا.
مات كثير من الأطفال بسبب أمراض بسيطة أو إصابات، مثل إعتام عدسة العين، أو فقر الدم، كما كان يتضورون جوعًا حتى الموت. وشملت الإصابات الجسدية كسورًا لم تلتئم بشكل صحيح، ما سبب تشوهًا في الأطراف.
وإلى جانب فشل دور الأيتام في تلبية الاحتياجات الأساسية كان يتم نقل الأطفال من دار أيتام إلى أخرى دون إخبارهم مسبقًا، حيث كان يتعين على الأطفال تغيير المؤسسات عندما يبلغون من العمر ثلاث سنوات، ومرة أخرى عندما يبلغون من العمر ست سنوات. وكان المصير الأسوأ للأطفال الذين كان يتم تصنيفهم على أنهم "غير قابلين للإصلاح"، فكانوا يعتبروا غير منتجين، ويتم تكليفهم بوزارة العمل.
بعد سقوط النظام، ادعى الموظفون أن العقاب البدني كان يمارس وفق قواعد الانضباط المناسب، واعتُبر الموظف الذي لا يضرب الأطفال، ضعيفًا.
تقدر مصادر بأن هناك نحو 100 ألف طفل عاشوا في دور الأيتام عام 1989، فيما تقدر مصادر أخرى العدد بـ170 ألفًا مكدسين في 700 مؤسسة. ويبقى العدد الحقيقي للأطفال الذين عاشوا في دور أيتام خلال عهد تشاوشيكو غير معروف، فلا يمكن الحصول على بيانات موثوقة عن الممارسات والسياسات التي حدثت في ظل النظام.
وفي عام 1990، قدر عدد أطفال الملاجئ المصابين بالإيدز بنحو ثلاثة آلاف، نتيجة لعمليات نقل الدم المستخدمة على نطاق واسع بين أطفال هذه الدور، لعلاج أي عدد من الأمراض، وإعادة استخدام نفس الحقن. وبحلول نهاية القرن الـ20 كان عدد الأطفال المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية حوالي 10 آلاف طفل.
تحسن جزئي
تلا الثورة الرومانية عام 1989 فترة من انعدام الأمن الاقتصادي والاجتماعي، فكانت فترة التسعينات مرحلة انتقالية صعبة، وازداد عدد أطفال الشوارع بشكل كبير، إما عن طريق هرب بعضهم، أو طردهم من دور الأيتام، أو من البيوت المسيئة.
وبعد سقوط النظام الشيوعي، انكشفت دولة تشاوشيسكو، وانتشرت قصص عن التعذيب والرقابة الشرسة، والقمع المبالغ فيه من الشرطة السرية التي وصفت بالأكثر وحشية في العالم، وانكشفت وضعية دور الأيتام آنذاك.
على إثر ذلك أنشئت عديد من الجمعيات الخيرية، وتم تشجيع التبني كحل لعشرات الآلاف من الأطفال الذين لا أهل لهم بسبب سياسات الإنجاب القسري، فتم تبني أعداد كبيرة من الأطفال من قبل أسر أجنبية، أمريكية وأوروبية، خلال فترة التسعينان وأوائل الألفية الثانية.
لكن شاب عمليات التبني هذه العديد من المخالفات بسبب الفساد واللوائح والقوانين الفضفاضة، لذا حظرت الحكومة التبني الدولي عام 2004 بضغط من الاتحاد الأوروبي الذي انضمت إليه رومانيا عام 2007، من أجل كبح انتهاكات النظام بعد ظهور قصص سماسرة الأطفال ومعارض الأطفال!
وبالنسبة للأطفال الذين لم يتبنوا أبدًا، فقد هربوا، أو غادروا المؤسسات بعد أن وصلوا سن 18 عامًا. معظمهم كانوا أميين، وعاشوا في الشوارع. وكثير منهم عمل في الدعارة والتسول، وانغمس قسم كبير في تعاطي المخدرات.
وبالرغم من أن تحسين وضعية الأيتام كان شرطًا لدخول رومانيا إلى الاتحاد الأوروبي، لا تزال ظروف بعض المؤسسات المعنية بالأيتام سيئة للغاية، كما ظل التكدس سمة الملاجئ بسبب أن إرث تشاوشيسكو لم يجد من يعالجه اجتماعيًا.
لم تقم الحكومة بتدريب أخصائيين اجتماعيين لتشجيع الأسر على أخذ أطفالهم إلى المنزل أو إعادتهم بعد أن كانوا في ملجئ لفترة. وتجادل الحكومة بأن ذلك إنما بسبب ازدياد معدلات نتيجة انتقال رومانيا من الشيوعية إلى الرأسمالية، فلفترة طويلة استغلت الحكومة الرومانية مسوغ "الفترة الانتقالية" لتبرير كل شيء.
تدهور نفسي وبدني
عانى الكثير من الأطفال في دور الأيتام من نقص الغذاء والملبس والرعاية الطبية، وكذا نقص التحفيز والتعليم والتربية، فنشأوا متأخرين بدنًيا وعقليًا، بسبب عدم وجود اتصال بشري.
مجمل ما عانى منه الأطفال في الملاجئ، انتهى بهم لأن يتحول واحد من بين كل عشرة أطفال لمستشفى للأمراض النفسية والعقلية. وبالجملة، فقد عانى أغلب الأطفال من صدمات نفسية.
وحتى بعد تبنيهم، واجه الأطفال المتبنين مشكلات في تكوين علاقات مع آبائهم الجدد، فبالاستناد إلى أهم مبدأ في نظرية التعلق، فإن الطفل بحاجة لتطوير علاقة مع مقدم رعاية أولي واحد على الأقل، للنمو الاجتماعي والعاطفي السوي، ولتعلم تنظيم المشاعر بشكل فعال. وعليه واجه هؤلاء الأطفال صعوبة في تكوين ارتباط عاطفي بالآخرين، مثل الآباء بالتبني.
كما وجد العلماء أن الكثير من الأطفال، أيتام حقبة تشاوشيسكو، الذين تم تبنيهم، كانوا بأدمغة أصغر حجمًا من الأطفال العاديين ممن لم يمروا بظروفهم.
كان الآباء يتخلون عن أطفالهم الذين أنجبوا قسرًا، في ملاجئ الدولة، حتى تكدس مئات آلاف الأطفال في 700 ملجأ بلا أدنى رعاية
الآن، وبعد ثلاثة عقود، لا تزال رومانيا الأعلى في معدلات الإجهاض في أوروبا، فكثير من الأطباء كانوا متحمسين للعمل في عمليات الإجهاض المربحة، أكثر من التوصية بتنظيم النسل. كما أن لدى رومانيا أعلى معدل وفيات مرتبطة بالحمل.
اقرأ/ي أيضًا:
هندسة الطبيعة البشرية.. تاريخ وتلاعب
البيولوجيا التخليقية.. هل يستطيع الإنسان صناعة مخلوقات حيّة قريبًا؟!