قبل عدة أيام، أصدر صندوق الأمم المتحدة للسكان بيانًا يعبّر فيه عن شعوره الشديد بالفزع بشأن قيام ضباط إسرائيليين بتجريد نساء وفتيات فلسطينيات في غزة من ملابسهنّ، وتعريضهنّ للاغتصاب أو الإعدام.
البيان السابق ليس الوحيد الذي صدر من وكالات أممية بشأن الانتهاكات التي تتعرّض لها نساء وفتيات غزة منذ بداية الحرب الإسرائيلية الحالية، فقد صدرت العديد من البيانات الأخرى التي يُعرب فيها المقررون الأمميون عن قلقهم جراء التقارير الواردة من القطاع، والتي تُثبت -بما لا يدع مجالًا للشكّ- قيام قوات الاحتلال الإسرائيلي باغتصاب أو التهديد بالاعتداء الجنسي للعديد من النساء والفتيات اللواتي اعتقلنَ من غزة.
رغمَ كثرة هذه البيانات والتقارير التي جاءت لتقرّر حجم الانتهاكات التي تتعرّض لها فتيات ونساء غزة من قتل واعتقال وعنف جنسي وجسدي وتهديد للحياة وافتقار لأدنى مقومات الصحة الإنجابية، إلا أنّ ذلك كلّه لم يترافق مع حركة نسوية غربية حقيقية وجادة تقف مع هؤلاء الفتيات والنساء، وتنشط في الدفاع عنهنّ وإيصال صوتهنّ إلى العالم.
فشل الحركة النسوية الغربية في تبني خطاب حقوقي حقيقي تجاه فتيات ونساء غزة، يأتي ليكشف عن ازدواجية المعايير والفشل الأخلاقي العميق لدى هذه الحركة، فقد تجاهلت الحركة فتيات ونساء غزة لمجرّد أنّ قضيتهنّ لا تعتبر من القضايا التي تستسيغها الأذواق الأوروبية، وهذا على عكس حركة الاحتجاج الواسعة التي أطلقتها الناشطات النسويات في الغرب للتعبير عن غضبهنّ على قضية مقتل الإيرانية مهسا أميني، وعن تضامهنّ مع المرأة الإيرانية المقموعة، وكأنّ الغضب النسوي الغربي يظهر بشكل انتقائي ويتمّ توجيهه نحو القضايا التي تتناسب مع السردية الغربية للتحرّر بعيدًا عن القضايا الأخرى.
تخاذل النسوية الغربية في إطلاق حركة تضامنية حقيقية مع غزة ونسائها يدفع عقول المشتغلين والمشتغلات بالفكر النسوي إلى طرح سؤال واحد رئيسي، وهو: أي حركة نسوية نريد؟
تخاذل النسوية الغربية في إطلاق حركة تضامنية حقيقية مع غزة ونسائها يدفع عقول المشتغلين والمشتغلات بالفكر النسوي إلى طرح سؤال واحد رئيسي، وهو: أي حركة نسوية نريد؟
لعلّ إجابة السؤال السابق يُمكن العثور عليها في المانيفستو (البيان) الذي أصدرته مجموعة من الناشطات النسويات في كتابهنّ "نسوية من أجل الـ99 %"، وقلنَ فيه أنّ النسوية التي يطمحن للوصول إليها هي نسوية الـ99 % أي نسوية الأغلبية، فنسوية الـ99 % بحسبهنّ لا يُمكن أن تتحقّق إلا بوجود حركة نسوية عالمية تمتلك رؤية متكاملة عن نضالات المضطهدين في كافة المجتمعات، ولا تقف منعزلة عن هذه النضالات، بل تنخرط بها وتتحالف معها.
إنّ نسوية الـ99 % بحسب منظراتها لا تتحقّق إلا من خلال الانخراط مع المجموعات المناهضة للعنصرية، والمناضلة من أجل القضايا البيئية، والنشطاء المدافعين عن حقوق المهاجرين والحقوق العمالية، فهي نسوية تجعل من مناهضة الاستعمار والعنصرية أطروحة أساسية من أطروحاتها، ومبدئًا رئيسيًا من مبادئها.
تؤكّد النسويات المتبنيات لنسوية الـ99 % على قضية مناهضة الاستعمار، ويوضحنَ بأنّ النظام الاجتماعي الرأسمالي الذي يفخر اليوم بالعمل الحرّ وعقود العمل المأجور، هو نظام ما كان له أن يتأسس ويبدأ دون النهب الاستعماري العنيف، واصطياد السود لأغراض تجارية في إفريقيا، واستعبادهم في "العالم الجديد"، وسلب أملاك السكان الأصليين، فهذا النهب العنصري للشعوب التابعة –بحسبهنّ- لم يتوقّف بعد المرحلة الأولى لانطلاق الرأسمالية، لكنه استمرّ بأشكال أخرى مثل: العبودية والاستعمار والفصل العنصري والتقسيم الدولي للعمل.
يعكس فشل الحركة النسوية الغربية في صياغة خطاب تضامني حقيقي يُناصر فتيات ونساء غزة عدم قدرة هذه الحركة إلى الارتقاء بنفسها إلى مصاف العالمية، فما زالت عاجزة عن الالتفات إلى مظلومية البشر، بعيدًا عن تصنيفاتهم العرقية والدينية، وما زالت مكبّلة بقيود العنصرية والنظرة القاصرة، وهو ما يجعلها بعيدة عن نسوية الـ99 % بما هي نسوية لكلّ المظلومين، مهما كانت أمكنتهم وتقسيماتهم الاجتماعية في هذا العالم.