تُعتبر ظاهرة بطالة الشباب، خصوصًا أولئك الذين لا يتوفرون على أي مؤهّلات تعليمية، الآفة المدمّرة التي تنخر العديد من البلدان عبر العالم. ورغم أن أعدادًا كبيرة من المهنيّين والأطر يتخرّجون كل فترة من الجامعات والمدارس العليا، إلاّ أن أرباب العمل يستمرّون في التّحذير من مخاطر تناقص مهارات وخبرات موظّفيهم، وكذلك من صعوبة عثورهم على الموظّفين المناسبين لإدارة أعمالهم، والذي ينتج عنه تراكم أفواج كبيرة من الشّباب العاطلين الحاصلين على شهائد عالية، ممّا يطرح عديد التساؤلات حول طبيعة الثّغرة الكامنة بين العمليّة التّعليميّة والتشغيل بشكل عام.
يؤدي سوء اختيار المسار التّعليمي أو انكباب معظم الطلبة نحو نفس الاتجاهات التعليمية إلى ارتفاع نسب البطالة
ربّما يرجع ذلك إلى سوء اختيار المسار التّعليمي الذي يطابق المهارات الفرديّة للأشخاص أو إلى انكباب معظم الطلبة نحو نفس الاتجاهات التعليمية بصفة مكثفة، مما ينتج عنه تباين كبير في المكتسبات المهنية أو فائض في أعداد المتخصّصين والمتخرّجين في بعض القطاعات، بحيث يجمع الجميع أن المسار الجامعي الأكاديمي هو أفضل السّبل للحصول على فرص عمل جيدة، في حين يُعتبر خيار التكوين المهني خيارًا ثانيًا.
تعتبر رداءة المؤهّلات المهنيّة للشباب المتخرّج أحد أكبر المشاكل التي تعاني منها معظم الدول عبر العالم، حيث بيّنت نتائج تقرير جديد لمجموعة ''سيتي أند غيلدس'' (the City and Guilds group) البريطانية أن ''عدم التطابق'' المهني هو السّمة الطّاغية على جميع القطاعات الاقتصادية بمختلف أنواعها، بالإضافة إلى عزوف معظم الناس عن ولوج مسارات التكوين المهني كونها خيارًا غير مرغوب فيه، وقد أرجع التقرير أن هذا المشكل هو السبب الرئيسي وراء تفشي ظاهرة بطالة الشباب المتخرجين في العديد من البلدان عبر العالم.
تعتبر الهند نموذجًا لأكبر الدّول المنتجة للشباب المتخرّجين جامعيًا في العالم، بحيث يتوقّع أن يقود النموّ الدّيموغرافيّ السّريع في البلاد إلى إنتاج قوّة عاملة قد تصل إلى 32% خلال العقدين المقبلين، وذلك راجع بالأساس إلى ''عقلية'' معظم العائلات الهندية التي تركّز على ضرورة حصول أبنائها على شهادات جامعيّة، بحيث يسود الاعتقاد أن ذلك هو السّبيل الوحيد لحصولهم على وظائف ثابتة بأجور مرتفعة، غير أن ذلك في الحقيقة لا يقود إلاّ لإفراز عشرات الملايين من الشباب العاطلين، رغم توفّرهم على شهادات جامعية عالية، مما يحتم على الدولة أن تأتي ببدائل للتعليم الجامعي التقليدي، وخصوصًا فيما يتعلق بالرّفع من جودة التكوين المهني، كحلّ للخروج من أزمة بطالة الشّباب المتخرّج، خصوصًا مع توفّر البلاد على نسبة 2.3% فقط من القوى العاملة التي تمتلك تدريبات ومهارات، مقارنة مع نسبة 80% في ألمانيا مثلًا، حسب تقرير مجموعة ''سيتي أند غيلدس'' البريطانية.
أمّا في جنوب أفريقيا، على سبيل المثال، فينظر إلى المؤهّلات، سواء كانت جامعية أم مهنية، على أنها ميزة إضافيّة كبيرة في سوق الشغل، في بلد يعرف نسبة بطالة بين فئة الشباب تصل إلى 54%، وفي نفس الوقت كشف استطلاع حكوميّ وجود تخوّفات كبيرة بشأن نقص مهارات العاملين وتزايد أفواج المتخرّجين الأكاديميين العاطلين عن العمل داخل البلاد، فضلًا عن العجز الفردي والاقتصادي الذي يشكلّه الارتفاع الهائل في أعداد العاطلين والذي من شأنه أن يقود إلى مخاطر حقيقيّة قد تهدّد استقرار البلاد.
هناك مشاريع في جنوب أفريقيا تهدف إلى توسيع كل من الكلّيات وأقسام التّكوين المهني، حيث تم وضع خطّة لزيادة 2.5 مليون مركز مهني وسط الكليّات في العشرين سنة المقبلة، أي بزيادة تقدر بحوالي أربع أضعاف، كحل بديل للمسارات الجامعية التي تقود المتخرجين إلى البطالة في نهاية المطاف، فإن تحقق ذلك فسيكون للأمر فوائد كبيرة على الاقتصاد والمجتمع الجنوب أفريقي.
تعتبر بريطانيا نموذجًا في مجال الربط بين التعليم والتشغيل وتوجهت الحكومة نحو الاستثمار في التدريبات المهنية بدل بعض المسارات الجامعية
في الوقت الذي تعتبر فيه بريطانيا نموذجًا يحتذى به في مجال الرّبط بين التّعليم والتّشغيل، حيث تمّ تحقيق تقدّم ملموس في الرّفع من فهم واستيعاب منافع التّكوين المهني والتخلّص من بعض المسارات التعليمية والأكاديميّة التي تحتل قيمة ضئيلة بالنسبة لاحتياجات أرباب العمل، بحيث ترى الحكومة البريطانية أن الاستثمار في التدريبات المهنية، بدل المسارات الجامعيّة، سيجني فوائد كبيرة ومستمرّة لاقتصاد البلاد، كالحدّ من الفجوة الحاصلة بين التعليم والتشغيل، وتقليص تفشّي ظاهرة بطالة الشباب المتخرجين وزيادة المردوديّة الاقتصاديّة، على الرغم من كون نظام التّعليم المهني البريطاني لا يزال معقّدًا مقارنة مع المسار التّعليمي الاعتيادي، خصوصًا فيما يتعلق بالفئة العمريّة لطلاب المرحلة الثّانوية، حيث هناك عدد قليل من الشّباب البريطانيين الذين يدرسون المواد المهنية وفقًا للمعايير الدولية.
أمّا في الولايات المتحدة، فقد شهدت مؤخرًا أول "أسبوع تعليم مهني وطني"، والذي يرمي بالأساس إلى الرّفع من قيمة ومكانة التّكوين والتّعليم المهني بين صفوف المتعلّمين والمتخرجين، كحل بديل لإنعاش قطاع التشغيل، في بلد يتوفّر حاليًا على 410 ألف متدرب مهني فقط، والعدد أقل من المملكة المتّحدة بحوالي النصف، وذلك راجع إلى التحيّز القويّ نحو نماذج التعليم الجامعية داخل النّظام الأمريكي.
قد تكون هناك تخوّفات من مخاطر عدم توافق ما يرغب الناس في دراسته مع متطلبات أصحاب العمل، فعلى سبيل المثال يوجد اليوم فائض من المتدربين في قطاع التسويق والاتصالات والحسابات، أما النقص الحقيقي فهو حاصل في أعداد الحرفيين الكهربائييّن والمهارات التقنية الأخرى، كما أشار تقرير مجموعة ''سيتي أند غيلدس" البريطانية. وتعتبر كل من ألمانيا والنّمسا، من الدول الرائدة في مجال الانخراط في دروس التعليم المهني، وهما صاحبتا أدنى نسبة بطالة بين الشباب.
اقرأ/ي أيضًا: