"لعقود كانت تغطياتنا عنصرية، لنمضي قدمًا علينا أن نعترف بذلك"
عنوان ساخن لمجلة ناشيونال جيوغرافيك في تغطيتها الجديدة لعدد عن العرق والعرقية. الدعاية التي لاقت ضجة واسعة أمريكيًا وعالميُا، لأن المجلة الرائدة التي تأسست منذ العام 1888 تعترف للعالم بأن أرشيفها العنصري أصبح محل اعتراف وتعليق من المجلة نفسها وأمام العالم.
تستند رؤية ناشيونال جيوغرافيك اليوم لمسألة العرق على إمكانية تجاوزها بموقف فردي كسفينة النجاة لتخطي إرث العنصرية ورواسبها
في معرض حديثها عن هذا الاعتراف، نشرت رئيسة تحرير مجلة ناشيونال جيوغرافيك سوزان غولدبيرغ في مقالها حول التغطية صورًا، تحكي قصصًا عن التناول العنصري للمجلة في الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها.
اقرأ/ي أيضًا: هل الفلسفة الغربية عنصرية وكارهة للأجانب؟
"أخلاقيات" العنصرية.. لمحات من تاريخ مر
على سبيل المثال، ومن أجل عرض صور للولايات المتحدة في حقبة الأربعينات، استخدمت مجلة ناشيونال جيوغرافيك صورًا لعمال سود في انتظار تحميل إحدى سفن القطن في "إحالة نمطية لرواسب العبودية في الولايات الجنوبية"، أو صورة أخرى لنادل أسود في أحد البيوت الأمريكية المبنية على طراز القرن الثامن عشر، وهو يرتب أواني فخارية وبطاقات على إحدى طاولات الطعام. المقال الذي كان مكتوبًا في العام 1956 علق كاتبه بالقول بأن هذا تاريخ تفخر الولايات المتحدة بالحديث عنه!
المجلة التي ذهبت إلى أغرب وأبعد الأماكن في العالم لم تستطع حتى السبعينيات أن تنحو منحىً مختلفًا لقصة العرق في الداخل الأمريكي العميق. تقول سوزان غولدبيرغ في افتتاحية مقالها "في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1930 أرسلت ناشيونال جيوغرافيك مراسلًا ومصورًا لتغطية مناسبة مهمة، تتويج الملك هيلا سيلاسي، كان طقسًا محاطًا بالبخور والكهنة والمحاربين برماحهم الوحشية". وتعلق سوزان غولدبيرغ على ذلك بقولها "لو أن هيلا سيلاسي كان يعيش في واشنطن، فإنك لم تكن لتجد أي تغطية عن أي رجل أسود في الولايات المتحدة، بسبب الفصل العنصري، وبسبب منع السود من دخول محاضرات ناشيونال جيوغرافيك في العاصمة واشنطن، وتؤكد بالقول "تم استبعاد الأمريكيين الأفارقة من العضوية، على الأقل في واشنطن، خلال أربعينيات القرن العشرين".
تحاول ناشيونال جيوغرافيك اليوم تجاوز قرابة قرن ونصف من العنصرية المؤسسية بشكل اعتذاري تسطيحي لمجمل مسألة العرق والعرقية
وفي الوقت الذي كانت المجلة تستبعد فيه المواطنين السود في الولايات المتحدة من التمثيل لمشاركتهم في تاريخ بلادهم الحقيقي، وفي التعبير عن أنفسهم، كانت تصوّر "السكان الأصليين" في أماكن أخرى على أنهم حيوانات غريبة، كانوا دومًا يظهرون في تغطياتها على أنهم صيادون لاهون سعداء، أو متوحشون نبلاء أو أي نوع من التنميط الذي لا يخرج عن هذه الصور.
ويعترف البروفيسور جون إدوين مايسون، الذي وظفته المجلة للغوص في أعماق أرشيفها بحثًا عن التغطيات العنصرية، أن المجلة لم تفعل الكثير من أجل تغيير الصور النمطية المتأصلة في الثقافة الأمريكية التي تقدس الرجل الأبيض وتضعه في المكانة الأولى. بل يزيد من الشعر بيتاً بقوله أن الأمريكيين حصلوا على أفكارهم حول العالم من طرازن ومن الأفلام الكرتونية العنصرية، وهو اعتراف ضمني بسذاجة الصورة الذهنية في الوعي الجمعي الأمريكي عن العالم، وعن الناس أيضًا، كما أنه اعتراف ضمني أيضًا بتفشي العنصرية في رؤية الشعب الأمريكي للآخر.
ومن تمظهرات ما قاله مايسون صورتان من أرشيف المجلة لاثنين من سكان استراليا الأصليين عام 1916، مرفقة بتعليق عنصري يتركك عاجزًا عن الكلام، فيقول "إن هؤلاء المتوحشين يحتلون مرتبة أدنى في ذكاء جميع البشر".
اقرأ/ي أيضًا: ديك "النهار".. حين يتقيأ عنصرية ضد السوريين
أما المسكوت عنه فقد كان أكثر قبحًا، فقد قارن البروفيسور مايسون بين قصتين عن جنوب إفريقيا إحداهما كانت في العام 1962 والثانية عام 1977، أي في أوج عنجهية نظام البوير الاستعماري والفصل العنصري في البلاد. والحقيقة أن القصة الأولى طُبعت بعد عامين ونصف من مذبحة راح ضحيتها الكثير من السود على يد شرطة نظام الفصل العنصري. و لم تأتِ المجلة على ذكر أي شيء بهذا الخصوص. أما تغطية عام 1977 فقد كانت مختلفة بعض الشيء، وعلى الرغم من أنها ليست بذات كمال يُذكر ولكنها على الأقل اعترفت بوجود ظلم ما ولعلها في ذلك تتبع ما كان "موضة" في أيامها حيث كانت حقبة صعود حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة.
مسائلة ما يبدو أنه عمل شجاع
مما لا شك فيه أن المجلة استطاعت أن تضرب عصفورين بحجر واحد، فرئيسة التحرير سوزان غولدبيرغ، استغلت واقع كونها أول رئيسة تحرير أنثى للمجلة وكذلك كونها يهودية، لكي تقول أنها هي ذاتها تعرضت للتمييز على أساس الهوية، كما أنها ربطت الحديث عن العرق والتورط العنصري لمجلتها بأعتاب الذكرى الخمسين لاغتيال مارتن لوثر كنغ. وهو ما يضعنا أمام الكثير من التساؤلات حول فكرة الاعتراف بذنب العنصرية ذاتها التي لا زالت حتى اليوم تتلقى دافعية وتشجيعًا من دول إفريقية مثل زيمبابوي.
إذ يقول إدوين مايسون، أستاذ تاريخ التصوير وتاريخ أفريقيا، أن "المجلة ظهرت في أوج الكولونيالية العالمية حيث انقسم العالم بين مستعمَرين ومستعمرِين، وأنها تقوم بإعادة توجيه ما يصلها من رسائل تتضمن تسيد الرجل الأبيض، فهل هذا اعتراف بأن المؤسسات الإعلامية الأمريكية الكبرى ليس لها تأثير حقيقي وأنها مجرد انعكاسات لوجهة النظر الغربية للعالم؟".
للإجابة عن هذا السؤال قمنا بعملية بحث عن دراسات لتغطيات قامت بها صحف أمريكية، خاصة في الموضوعات الحساسة التي تبرز تمايز "العرق" في التغطية، و هو تحليل قامت به الباحثة كلاسيا كولسويتشز، لنصوص صحفية تتناول الحديث عن المواجهات بين المواطنين والشرطة. فقد قامت كاسيا بتحليل 30 مقالًا لصحف أمريكية من بينها يو إس إيه توداي، والنيويورك تايمز، والوول ستريت جورنال، والواشنطن بوست والنيوزويك، لتجد أن كثيرًا من تغطيات هذه الصحف كانت عنصرية، حيث اقترنت بالتفرقة بين السود، بذكر السود كمجموعة عرقية في مقابل البيض كأخرى، كما اقترن السود في التغطيات الصحفية بالعنف والتمرد، بينما كان التعاطف والمفردات العاطفية مقترنة بذكر الشرطة التي تقع على الطرف الآخر من المواجهة العرقية.
بماذا قد ينفع اعتذار خجول عن زرع الخيالات العنصرية في الوعي الاجتماعي على مدار عشرات السنوات؟
استُخدمت كلمة "السود" كتعريف للمواطنين 196 مرة في هذه المقالات مقابل 63 مرة فقط للبيض، وهو ما يشكل نسبة 76% مقابل 24%، وهو أمر لافت للانتباه خاصة أن التغطيات الصحفية كانت أمام طرفين مختلفين. دون أن يشكلا نفس الثقل في الميزان العرقي عند هذه الصحف. وهو ما يطرح التساؤل عن الثقة التي تنطلق منها المجلة في موضوع الاعتراف بالتغطية العرقية حيث تنبع من رؤيتها أن المجتمع الأمريكي حقق تقدمًا في هذا المجال، بينما تشير الإحصائيات والبيانات إلى واقع أكثر تعقيدًا وتشاؤمًا، إذ لازال 92% من الأمريكين الأفارقة يرون اليوم، أنهم لا يستطيعون الاستفادة من كثير من الميزات التي يحتكرها البيض في المجتمع الأمريكي.
النقطة الأخيرة هي أن أحد منطلقات تغطية المجلة تستند إلى أن مسألة العرق يمكن تجاوزها بموقف فردي كسفينة النجاة التي يمكن من خلالها تجاوز ما سببته العنصرية في المجتمع الأمريكي وربما في العالم. وقد بدا ذلك جلياً من خلال غلاف عددها يوم الإثنين الماضي للتوأمين مارسيا وميلي بيجز تحت عنوان "هاتان الأختان التوأم سوف تجعلاننا نعيد التفكير في كل شيء نعرفه عن العرق". وهي زاوية ضيقة للغاية لتناول موضوع بعمق وحساسية العرق. ليتضح أن الاعتذار الخجول والمتأخر لناشيونال جيوغرافيك عن تاريخها العنصري ليس إلا استدراكًا متأخرًا قد لا يتجاوز أطر الدعاية للإدارة التحريرة الجديدة للمجلة "البيضاء".
اقرأ/ي أيضًا:
عنصرية ضد اللاجئين في أوروبا.. من المهاجرين أيضًا!
عنصرية ترامب ضد المهاجرين السود تفتح ملف الجرائم الأمريكية في أفريقيا