حطّت الحرب الأهلية في لبنان أوزارها مع حلول عقد التسعينات من القرن العشرين بعد 15 سنة من القتل والقصف والتهجير والاعتقالات والإخفاءات القسرية، وكل ما يرافق الحروب من ويلات ومآسٍ. جلس أمراء الحرب أنفسهم على طاولة واحدة ووقّعوا ما عرف باتفاق الطائف، ليحكموا قبضتهم على البلد ومقدراته مرة أخرى.
ربما توقفت آلة الحرب الأهلية اللبنانية، لكن عذابات آلاف الأسر لم تتوقف في بحثهم المضني عن ذويهم المخفيين قسريًا
توقفت آلة الحرب ولم تتوقف معها عذابات آلاف الأسر اللبنانية. فناهيك عن القتلى والجرحى والمهجرين، اختفى خلال الحرب آلاف المواطنين من مقاتلين ومدنيين، ولا يزالون حتى اليوم مجهولي المصير.
اقرأ/ي أيضًا: لم تنتهِ الحرب الأهلية اللبنانية بعد
تشير الإحصاءات غير الرسمية إلى وجود أكثر من 17 ألف مفقود ممن اختطفوا أثناء الحرب، بينما سجّلت لجنة التحقيق للاستقصاء عن مصير جميع المخطوفين والمفقودين، والتي شكلها مجلس الوزراء اللبناني عام 2000، وجود 2046 حالة لمفقودين، السواد الأعظم منهم أُخفي قسريًا إما داخل لبنان، أو في السجون السورية أو الإسرائيلية. ومنهم من اختطف على الحواجز وفي المعارك، أو اختطفوا من منازلهم وأماكن عملهم. أُخفو تمامًا وكأن الأرض قد ابتلعتهم، وتُرك ذووهم يعيشون مرارة الحسرة والانتظار.
الدولة اللبنانية والحكومات المتعاقبة تعاملت مع الموضوع باستخفاف وعدم مسؤولية، واستخدمت سياسة دفن الرأس في الرمال. أمّا من جهة النظام السوري الذي يعتقد عدد كبير من أهالي المخفيين قسريًا، أن ذويهم محتجزون في سجونه (يُقدّرون بـ600 معتقل على الأقل)، فقد دأب على إنكار وجود أي معتقل لبناني لديه، وهو إنكار غير واقعي بطبيعة الحال، وتدحضه الكثير من الشهادات الحية والتحليلات والوقائع.
فيما لا تتوفر أية معلومات عن المخفيين قسرًا، الذين يُعتقد أنهم في إسرائيل، في ظل عدم اعتراف دولة الاحتلال بوجودهم، وفي ظل تقصير واضحٍ من الدولة اللبنانية في طرح المسألة في المحافل الدولية.
الأحزاب اللبنانية بدورها تتعاطى مع قضية المفقودين بانتهازية، وبما يضمن مصالحها، فيكثر الحديث عن المفقودين والمختفين قسريًا في فترات الانتخابات، كما تُستخدم قضيتهم في المزايدات الطائفية والمذهبية لشد عصب الجماهير الأهلية، في الوقت الذي يغيب فيه أي مشروع جدي من الأحزاب للمطالبة والبت في ملف المفقودين.
في المقابل، تولي عدد من الجمعيات اللبنانية والمنظمات الحقوقية اهتمامًا كبيرًا بهذه القضية، في ظل تقاعس الدولة الواضح في أداء مهماتها.
واستبشر ذوو المفقودين الخير في محطات عديدة، ولاح أمامهم بصيص أمل بالحصول على أية معلومة تخفف من آلامهم، ومن هذه المحطات الانسحاب السوري في العام 2005، واندلاع الثورة السورية 2011، وحصول انشقاقات بنيوية في النظام والجيش السوري، الأمر الذي أعطى أملًا بالإفراج عن معطيات مهمة تخص هذا الملف. كذلك عودة زعماء الأحزاب المسيحية الجماهيرية إلى الحكم، والتي كان ملف المفقودين في أساس أدبياتها وخطاباتها، إلا أنه لم يحصل أي تقدم ملموس!
تتعاطى الأحزاب اللبنانية مع قضية المخفيين قسريًا بانتهازية، وبما يضمن مصالحها، فتستخدمها في الانتخابات أو المزايدات الطائفية
وفي 30 آب/أغسطس 2017، وبمناسبة اليوم الدولي لضحايا الإخفاء القسري، ناشد رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر في لبنان، الدولة اللبنانية، بالوفاء بالتزامها بالكشف عن مصير مفقودي الحرب اللبنانية، وإعطاء الإجابات الوافية لذويهم الذين لهم الحق الكامل في معرفة ما حلّ بذويهم. علمًا بأن الصليب الأحمر، يقوم منذ عام 2002 بمقابلات مع ذوي العائلات لجمع بيانات ومعلومات عن المفقودين، وصولًا إلى أخذ عينات بيولوجية لمطابقتها لاحقًا في حال العثور على جثث أو مقابر جماعية كما يُحتمل.
اقرأ/ي أيضًا: لبنان.. متى يقفل ملف المغيبين في السجون السورية؟
وفي 11 نيسان/أبريل 2005، أي قبل يومين تمامًا من الذكرى الثلاثين لاندلاع الحرب الأهلية، نصب أهالي المفقودين خيمة رمزية، بحديقة جبران خليل جبران، أمام مبنى الإسكوا في بيروت، بهدف الضغط على الجهات المعنية لمعرفة مصير ذويهم. ومع الوقت تحولت الخيمة، التي باتت تعرف باسم خيمة أهالي المفقودين، إلى منبر تستخدمه لجنة أهالي المخطوفين لإيصال صوتها ورسالتها ووجعها.
وفي السابع من تشرين الثاني/نوفمبر 2016، أطلقت جمعية "محاربون من أجل السلام" في لبنان، من أمام خيمة أهالي المفقودين في بيروت، مبادرة تهدف للمساعدة في كشف مصير مفقودي الحرب.
أعضاء الجمعية، وهم من الذين انزلقوا إلى أتون الحرب في شبابهم، يحاولون من خلال المبادرة هذه، التعبير عن ندمهم لمشاركتهم بحرب عبثية، دفع ثمنها غالبًا المدنيين والأبرياء.
وتقوم المبادرة على تبادل المعلومات، بشكل سري بين أعضاء الجمعية وأهالي المفقودين، بهدف الوصول إلى خيوط قد تؤدي لاحقًا إلى معرفة الحقيقة، فالحقيقة تعتبر شرطًا أساسيًا لمعالجة آثار وتداعيات الحرب، وفتح صفحة جديدة تمامًا.
في المحصلة، يصرّ أهالي المفقودين والمختفين قسريًا، التشبث بأي بصيص أمل من شأنه أن يقودهم إلى كشف الستار عن مصير أبنائهم. يُعذّبهم الانتظار، ويمضي الوقت بسرعة. تعاقبت الحكومات واهتز النظام في سوريا، ووصل ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، ولم يلحظوا أي تقدم في ملفهم.
مع إهمال الدولة لملف مفقودي الحرب الأهلية وتخلي الأحزاب عن مسؤوليتها؛ حسم الأهالي أمرهم: لن يتخلوا عن حقهم في معرفة مصير أبنائهم
ورغم ذلك، وفي ظل إهمال الدولة الواضح، وتخلّي الأحزاب عن مسؤولياتها واستخدام قضية المفقودين فقط كمطية لتحقيق مآرب سياسية وانتخابية، فإن الأهالي حسموا أمرهم، وهم لن يتخلوا عن حقهم في معرفة مصير أبنائهم مهما طال الزمن.
اقرأ/ي أيضًا: