يُذكر في الأثر، أن الرسام البلجيكي بيتر بول روبنز منذ ما يقرب من أربعمائة سنة رسم لوحة تعبر عن مأساة أحد المساجين الذي حُكم عليه بالموت جوعًا داخل السجن، اللوحة عبارة عن فتاة تخرج ثديها لترضع المسجون العجوز، وهذه هي القصة باختصار، فبعد أن حُكم عليه بالموت جوعًا في سجنه، كانت بنته تزوره يوميًا ويتم تفتيشها بدقة، فقامت هذه الفتاة بإرضاع العجوز في سجنه كل يوم، ومرت الشهور دون أن يموت العجوز وبدأت الشائعات في التنقل بأرجاء البلدة حول قدسية هذا العجوز وأن هناك مائدة تنزلها له الملائكة من السماء يوميًا ليأكل منها وأن الآلهة تتوسط له وسوف تؤذي كل من يتعرض له.
لا أحد يعرف الرقم الحقيقي للمرضى وللأشخاص المعرضين للوفاة نتيجة الإهمال الطبي داخل السجون ومقار الاحتجاز في مصر
اليوم وبعد مرور أربعة قرون على هذه اللوحة، هناك مئات المرضى في السجون والمعتقلات المصرية المعرضة حياتهم للخطر، ويقفون على مشارف الموت، أزعم أن عزرائيل لابد أن يزور السجون المصرية يوميًا حتى يتأكد إن كان أحدهم في حاجة إلى خدماته، هذا الحليب الذي أنقذ حياة العجوز هو اليوم يساوي الأدوية التي يحاول الأهالي إدخالها إلى مرضاهم داخل السجون والمعتقلات ويمنعهم الأمن، مشتركين بذلك في جرائم القتل العمد البطيء.
العقرب ليس وحيدًا
تم إلقاء الضوء في الفترة الأخيرة من قبل بعض الإعلاميين والمنظمات الحقوقية على سجن العقرب والتعديات التي تحدث بداخله والإهمال الطبي الذي يتعرض له المرضى، وغلق الزيارات والتعسف الأمني، بينما سجن العقرب ليس المقبرة الوحيدة للأحياء على الأراضي المصرية، ففي هذا التقرير سنتعرف على بعض الحالات من سجون مختلفة يتعرضون للإهمال الطبي ولا يأخذون نصيبهم من الاهتمام الإعلامي والحقوقي.
كثير من الكلام.. قليل من الأفعال
كل فترة يظهر تحقيق جديد عن السجون المصرية والإهمال الطبي بداخلها، وكل تحقيق يحمل أرقامًا مختلفة عن الآخر، ويتناول حالات جديدة، ولا أحد يعرف الرقم الحقيقي للمرضى وللأشخاص المعرضين للوفاة نتيجة الإهمال الطبي داخل السجون ومقار الاحتجاز، كل ما يصلنا هي أرقام من ماتوا بالفعل نتيجة الإهمال والتعذيب، ولا محاسب ولا رقيب، وتظل السلطة مستمرة فيما تفعله وتؤثر الصمت عن جرائمها.
أصدرت المنظمة العربية لحقوق الإنسان توثيقًا لخمسين حالة معرضة للوفاة نتيجة الإهمال الطبي دون أي نتيجة، وصدر من قبل تقرير عن منظمة هيومان رايتس ووتش في يناير الماضي حول الوفاة داخل مقار الاحتجاز ولم ينظر له أحد، بالإضافة للتقارير الصادرة من حملة الإهمال الطبي في السجون جريمة، وغيرها من المنظمات الحقوقية أو الجرائد والمواقع الصحفية.
على شفير الموت
1- عادل عبدالكريم/ سجن برج العرب.
عادل عبدالكريم 51 سنة، محبوس احتياطيًا منذ 8-5-2014 ويعاني من جلطة في القلب، يعمل محاميًا بمحكمة النقض ومستشارًا قانونيًا بنقابة الصيادلة ونقابة المعلمين بالإسكندرية، المؤسس لمركز الشهاب لحقوق الإنسان بالإسكندرية، القصة من البداية كما روتها زوجته "أم عبدالرحمن" أن زوجها عند اعتقاله كان سليمًا ومعافى، بدأ الأمر في شهر أغسطس الماضي مع موجة الحر الشديدة، والتكدس في الزنازين، حيث أن حجم الزنزانة 3 في 4 متر وبداخلها 25 سجين، حتى أنهم يقسمون مواعيد النوم فيما بينهم لأن المساحة لا تسمح للجميع بالنوم، فمجموعة ينامون بينما تظل المجموعة الأخرى واقفة، ويتبادلون الأدوار هكذا، في البداية كانت المراوح ممنوعة في الزنازين ثم بعد ذلك سمحوا بمروحة واحدة داخل كل زنزانة، وبحكم السن والضغوط النفسية والجسدية والمعاملة السيئة التي يتعرض لها، بدأ ضغط الدم في الارتفاع وتعرض لحالة من الاختناق ثم سقط مغشيًا عليه.
اتصلت إدارة السجن بالإسعاف ثم انتظروا موافقة الأمن الوطني الذي بدوره رفض خروج المعتقل بحجة حاجته إلى حراسة وعدم وجود عدد كاف من أمناء الشرطة، وبعد السماح له بالخروج نُقل إلى مستشفى العامرية ولم يكن هناك أسِرَّة في العناية المركزة، فلجأوا إلى المسكنات من الثامنة ليلًا وحتى الثانية عشر ظهرًا من اليوم التالي، بعد ذلك خرج التقرير الطبي بأنه يعاني من انسداد في الشريان التاجي وجلطة في القلب أثرت بنسبة 40% على كفاءة عضلة القلب، نُقل بعد ذلك إلى مستشفى برج العرب وطلب أن يقوم بعمل أشعة على حسابه الشخصي، ولكن الأمن الوطني رفض الأمر، ومنذ ذلك الحين وحتى الآن لم يقم المريض بعمل الأشعة المطلوبة، وفي كل مرة تحاول زوجته الحصول على تصريح خروج، يأتي التصريح متأخرًا بعد أن تكون المستشفى الميري بالإسكندرية أغلقت أبوابها، وكل هذا بحجة أن وحدة التأمين تخرج من مديرية الأمن في العاشرة صباحًا لتصل برج العرب ظهرًا، وبعد الانتهاء من الأوراق والتصاريح المطلوبة تتحرك وحدة التأمين من برج العرب في حوالي الواحدة بعد الظهر في حين أن عيادة الأشعة تغلق أبوابها في هذا التوقيت، وهكذا.
يُذكر أن عادل عبدالكريم فقد ما يقرب من عشرين إلى خمسة وعشرين كيلوجرامًا من وزنه، ويعاني كثيرًا من حالات الاختناق والإغماء، بالإضافة إلى وجود حالات مريضة بالإيدز داخل مستشفى السجن بدون رعاية طبية أو حجر صحي أو أخذ الاحتياطات الطبية اللازمة لعدم نقل المرض بين باقي المرضى، تقول زوجة عادل عبدالكريم أنه يتم حجز المرضى في مكان موبوء لقتلهم والخلاص منهم عبر إصابتهم بعدوى مرض مميت بدلاً من علاجهم.
2- محمد السيد حجازي/ سجن العقرب
محمد السيد حجازي 53 سنة، محبوس احتياطيًا منذ ثلاث سنوات، مُتهم بالانضمام لجماعة أنصار بيت المقدس، تقول زوجته "أم عصام" أنه كان معتقلًا سياسيًا لمدة 19 عامًا ثم خرج من بعد ثورة يناير، وتم إلقاء القبض عليه من جديد منذ ما يقرب من ثلاثة سنوات، وخلال هذه الفترة لم يصدر حكم محكمة بشأنه بعد، وقبل شهر بالتحديد من إلقاء القبض عليه مجددًا قام بإجراء جراحة لاستئصال المرارة، ثم بعد ذلك تعرض الجرح أثر الجراحة إلى "فتق" ويحتاج إلى عملية جراحية أخرى، وتم استخراج تصريح العملية من مصلحة السجون ومن قاضي المحكمة وترفض إدارة السجن تحويله للمستشفى بحجة أنه لا علاقة لهم بهذه التصاريح، وتقول زوجته إنه تعرض للتعذيب ويعاني من كسر في كتفه الأيسر، وتمنع إدارة السجون دخول الأدوية.
3- ياسر فرج الدفراوي/ سجن دمنهور
ياسر فرج الدفراوي، مسجون في سجن دمنهور، وتقدمت أسرته ببلاغ للنيابة العامة للمطالبة بعرضه على المستشفى لمعاناته من فيروس سي، وتوضح أسرته أنه أجرى عملية استئصال ورم من القولون، وأنه خضع للعلاج الكيماوي لمدة ستة أشهر قبل القبض عليه، وهو الآن في حاجة لإجراء بعض الأشعة والتحاليل لبدء حالته في التدهور من جديد.
4- شعبان عبدالقادر رضوان/ سجن برج العرب
شعبان عبدالقادر رضوان، محبوس احتياطيًا من مارس الماضي، تقول زوجته "أم براء" إنه يعاني من فيروس سي منذ عام 2001، وتليف في الكبد، وتضخم في الطحال، وأنه اختفى قسريًا من 7-3-2015 حتى 21-3-2015 خلال هذه الفترة تعرض للتعذيب ومنعه عن الطعام وإجباره على الاعتراف بتهم لم يرتكبها، بعد ذلك تم ترحيله إلى سجن استقبال طره من مارس وحتى مايو 2015، وخلال هذه الفترة ظل ينزف حيث أصيب بدوالي في المريء نتيجة منعه عن الأكل والتعذيب الذي تعرض له ومنع الأدوية، ثم عُرض على النيابة وهناك تعرض لحالة هبوط عام وأغمى عليه.
تم تحويله إلى القصر العيني، وإجراء عمليتي مناظير، وخرج التقرير الطبي بأنه مصاب بدوالي المريء من الدرجة الثالثة والرابعة ويحتاج إلى عمل مناظير مدى الحياة، وكان من المقرر أن يتم عمل منظار له في بداية شهر يوليو الماضي بالتحديد يوم 11، ولكن إدارة السجن والأمن الوطني يرفضان خروجه، وهو الآن يتعرض لنزيف مستمر، وحياته في خطر.
5- أحمد عبدالرحمن عبدالتواب/ سجن استقبال طره
أحمد عبدالرحمن عبدالتواب، يعمل مهندسًا في شركة الملاحات بالفيوم، يقول المحامي محمود حسن أنه تم القبض على أحمد عبدالرحمن في أواخر مارس الماضي، وتعرض للتعذيب في قسم شرطة الفيوم واتهم رئيس المباحث "وليد غنيم" ومعاونيه بتعذيبه وصعقه بالكهرباء في تحقيقات نيابة أمن الدولة والتي بدأت بعد حوالي شهر من اختفائه قسريًا، وُجهت إليه تهم الانتماء لجماعة إرهابية، وكانت الأحراز المضبوطة معه كتبًا فقط.
يقول المحامي أن المتهم كان مصابًا بطلق ناري في أحداث الحرس الجمهوري في قدمه اليسرى تسببت في شبه شلل في القدم، وكان يداوم على العلاج الطبيعي وبدأت حالته في التحسن، وبعد القبض عليه مُنع من إتمام علاجه وبدأت حالته في التدهور من جديد، كما أنه قبل القبض عليه بشهر تقريبًا عرف أنه مصاب بفيروس سي، وتقدم بطلب للعلاج على نفقة الدولة، وهو الآن ممنوع من العلاج، وحالته تسوء.
6- عبدالتواب على حسن صبيح/ سجن دمو
عبدالتواب على حسن صبيح، تجاوز عامه الستين، ويعاني من السكر والضغط وضمور في الكلى، تذكر ابنته أن الدواء لا يمنع عنه، ولكن حالته الصحية تسوء بالداخل.
7- عماد حسن علي/ سجن العقرب
عماد حسن علي، توفي في سجن العقرب سبتمبر الماضي، تقول زوجته "إيمان عبدالنبي" أنه تم إلقاء القبض عليه بعد الذكرى الأولى لأحداث رابعة، وواجه اتهامات التظاهر والانضمام لجماعة إرهابية، ثم بعد خمسة أشهر من حبسه احتياطيًا تم اتهامه في القضية المعروفة إعلاميًا "بكتائب حلوان".
لم يشتكِ عماد حسن من شيء حتى السادس من يناير الماضي، وخرج التقرير الطبي بأنه يعاني من سرطان في المعدة، بينما تم إبلاغه وإبلاغ أسرته بأنه يعاني من قرحة في المعدة، ثم عاد إلى سجن العقرب مرة أخرى، وتعاطى الأدوية مرة واحدة قبل أن تُغلق الزيارات لمدة ثلاثة أشهر، وبعدها فتحت الزيارة مرة واحدة زارته أسرته وأعطته دواء لقرحة المعدة، وأغلقت الزيارات مرة أخرى لمدة شهرين، وفي شهر رمضان الماضي ازدادات حالته سوءًا وبدأ يتقيأ دمًا، نُقل إلى مستشفى ليمان طره في أول أيام عيد الفطر الماضي، وقاموا بوضع محاليل فقط، وتقول زوجته أن أبناءه لم يتعرفوا عليه عند زيارته في المستشفى بسبب فقدانه ما يقرب من نصف وزنه، بعد فترة خرج التقرير الطبي باشتباه في انسداد في المعدة بسبب قلة الطعام حيث أنهم لم يتعاطوا الطعام في رمضان وتم إغلاق "كانتين" السجن وكان الفطار عبارة عن كوب من الحليب وبضع تمرات، وقيل أنه بحاجة لعملية جراحية في المعدة، وظل هكذا لمدة أسبوعين ثم عاد إلى سجن العقرب وحالته مازالت تسوء، ومازال يتقيأ دمًا.
تدهورت حالته أكثر في سجن العقرب مما دفع زملاؤه للإضراب عن الطعام لمدة يومين مطالبين بعلاج زميلهم، ذهب إلى مستشفى القصر العيني وحُجز في غرفة أشبه بالحبس الانفرادي وبدون دورة مياة، وبعد أكثر من شهر سُمح له بإجراء الإشاعات لازمة، عُرف منها إصابته بسرطان في المعدة، وكان هذا قبل وفاته بثلاثة أسابيع، وقيل لأسرته أن الورم عبارة عن 1 سم في 1 سم ويجب إجراء جراحة سريعة لاستئصاله، ونتيجة التأخير والإهمال الطبي المتعمد ظلت حالته تسوء أكثر حتى قبل وفاته بثلاثة أيام، تم اكتشاف انتشار الورم وإصابة الرئتين، وخروج الأمر عن السيطرة، وأنه في انتظار وفاته، وهو ما قد حدث بعد ثلاثة أيام.
ما باليد حيلة..
ضم هذا التحقيق قصصًا عن حالات بعينها معرضة للوفاة داخل السجون نتيجة الإهمال الطبي، أو حالات توفيت بالفعل، بالتأكيد هذه الحالات لا تمثل إلا القليل ومهما حاولنا توضيح معاناتهم لن تستطيع، سلاحنا القلم وليس في أيدينا شيء نفعله غير ذلك، التوعية بالحالات التي نستطيع الوصول إليها، ربما تتسبب كلماتنا في إنقاذ أحدهم.
*شكراً للزملاء: الحقوقية نادية محمد، المحامي محمود الشافعي، ولاء صلاح عضو حملة الإهمال الطبي في السجون جريمة.
اقرأ/ي أيضًا: