ألترا صوت - فريق التحرير
"الفوضى" هي أقرب كلمة يمكن بها توصيف الطريقة التي يدار بها منذ عقود مبنى اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري الحكومي، المعروف بـ"ماسبيرو".
وقائع فساد لا تنتهي في مبنى ماسبيرو الذي تتراوح أعداد العاملين فيه ما بين 30 إلى 50 ألف عامل يتقاضون رواتب شهرية من ضرائب المصريين
ماسبيرو هو العملاق المهدور في الإعلام المصري، بمئات الملايين من المديونات، ومثلها من الأموال الموزعة دون حسيب أو رقيب، ودون أن يكون من ورائها مردود فني أو ربحي.
اقرأ/ي أيضًا: الصحف القومية المصرية.. مومياوات في خدمة الرئيس
وقائع فساد لا تنتهي في المبنى الذي تتراوح أعداد العاملين فيه ما بين 30 إلى 50 ألف عامل يتقاضون رواتب شهرية من ضرائب المصريين. كما يُشير التضارب في إعلان أعداد العاملين في ماسبيرو من قبل المسؤولين، عن وجه آخر للفساد: فساد الفوضى وانعدام الرؤية لانعدام المعلومات الأولية.
ماسبيرو.. قلعة الفساد الإعلامي
يعود الاسم إلى عالِم المصريات الفرنسي جاستون كاميل شارل ماسبيرو، تخليدًا لدوره الكبير في اكتشاف الآثار الفرعونية والحفاظ عليها في مواجهة السرقات.
بدأ العمل في تشييد المبنى بقرار من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في عام 1959، على مساحة حوالي 12 ألف متر مربع، بميزانية تصل إلى 108 ألف جنيه مصري آنذاك، حين كان الجنيه الواحد يساوي 2.5 دولار أمريكي.
وفي عام 1960 تم الانتهاء من تشييد المبنى، تحديدًا في تموز/يوليو من نفس العام، لمواكبة الاحتفالات بالعيد الثامن لثورة الضباط الأحرار. واستطاع المصريون أن يشاهدوا التلفاز لأول مرة آنذاك.
مثل ماسبيرو حالة فريدة في الإعلام العربي، تفاوت أداؤه عبر الزمان، وصولًا إلى عهدة وزير الإعلام المصري الأبرز والأطول زمنًا في الوزار، صفوت الشريف، أحد أبرز رجالات الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك. تولى الشريف وزارة الإعلام في 1982 وحتى عام 2004، أي لربع قرن تقريبًا.
صفوت الشريف، رجل كل الأنظمة، وأحد أبرز وجوه ما كان يُسمى بـ"الحرس القديم" في عهد مبارك، بدأت على يديه مرحلة الدخول في النفق المظلم بالنسبة لماسبيرو، باعتباره عصب الإعلام الحكومي في مصر، والذي لم يكن ثمة غيره أصلًا.
تدهور المحتوى المقدم في ماسبيرو على مر السنين. لكن الأهم هي شبهات ووقائع الفساد في المبنى العملاق، ومن بين هذه الوقائع تعاقد الشريف مع شركة أمريكية تدعى "ديناميك" عام 1996 لبث محتوى إعلامي مصري من برامج وأفلام ومسلسلات في الولايات المتحدة الأمريكية، مقابل مليونين و600 ألف دولار أمريكي، وافق على صرفها كل من صفوت الشريف وكمال الجنزوري الذي كان رئيسًا للوزراء آنذاك.
ومع الأموال المدفوعة، لم يتم الاتفاق، ولم يبث أبدًا أي محتوى إعلامي مصري في الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يعبأ صفوت الشريف باسترداد أموال الخزينة المصرية التي ذهبت هباءً.
دفع ذلك لإثارة الشكوك حول الشريف من وراء هذه القضية. علمًا بأن صفوت الشريف يمتلك الجنسية الأمريكية إلى جانب المصرية، الأمر الذي زاد الشكوك في أن يكون ضليعًا في قضية فساد بالكسب غير المشروع.
أمريكا مرة أخرى
لم تنته الحكاية عند ذلك الحد، فتعاقد صفوت الشريف مرة أخرى مع شركة أمريكية أخرى هي شركة "كيلي برودكاستنج سيستمز" ولنفس الغرض الذي تعاقد من أجله مع شركة ديناميك، رغم أنه لم يتخذ أي إجراء قانوني ضد شركة ديناميك لاسترداد الأموال.
ودفعت الأموال مجددًا لشركة أمريكية بغرض بث المحتوى الإعلامي المصري في الولايات الأمريكية، غير أن شركة ديناميك قاضت اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري لتعاقده مع شركة أخرى، بالإخلال بالتعاقد معها، وحُكم لها بتعويض قدره 50 ألف دولار أمريكي أتعاب محاماة، وباقي التعويض سقط مقابل أن يفسخ ماسبيرو تعاقده مع شركة كيلي. وضاعت الأموال هنا وهناك. ولم يسأل عنها أحد!
سوزان حسن ثم أنس الفقي
سوزان حسن، الرئيس الأسبق لقطاع التلفزيون من الفترة ما بين 2005 وحتى 2009، من بين الأسماء الواردة على قوائم المشبوهين بالفساد في ماسبيرو، بفضل سياساتها الإدارية التي تسببت في إهدار الملايين، بدايةً من استقدام عاملين جدد لماسبيرو، برواتب ومزايا تفوق التي يحصل عليها العاملون الأقدم في مبنى اتحاد الإذاعة والتلفزيون، حتى وُصف الذين استقدمتهم بحاشيتها الخاصة.
تسبب ذلك في اشتعال الاحتجاجات بين العاملين الأقدم بمبنى ماسبيرو، فاضطرت سوزان حسن رضوخًا للاحتجاجات أن تزيد من الرواتب والامتيازات المالية لباقي العاملين. أدى ذلك لزيادة ميزانية ماسبيرو بالاستدانة!
وعلى نفس المنوال، عرف ماسبيرو في عهد سوزان حسن إهدارًا للمال العام، عبر الإدارة المستهترة، كأن توقف برامج بعد تخصيص ميزانية لها، وبناء ديكوراتها، أو يوقف تصوير برامج أخرى بعد صرف عشرات الآلاف على الدعاية والبرومهات.
أما أنس الفقي، وزير الإعلام المصري منذ 2005 وحتى قيام ثورة يناير، فاتهم بعد الثورة باستخدام ماسبيرو لتمرير واحدة من أكبر عمليات إهدار المال غير العام والتكسب غير المشروع، بحسب ما تناقله تقارير صحفية آنذاك.
وكان الجهاز المركزي للمحاسبات، قد حمّل الفقي ومساعديه الذين عينهم بنفسه، مسؤولية تنامي ديون اتحاد الإذاعة والتلفزيون لتصل إلى 11 مليار ونصف المليار جنيه مصري. إضافة إلى إشرافه المباشر على إنتاج أغانٍ وحفلات خاصة لرئاسة الجمهورية بميزانية تجاوزت 8.5 مليون جنيه، بخلاف مسلسل الإهدار الكامل لرأس مال القطاع عبر الاستعانة بشركات أجنبية لعمل استديوهات كلفت القطاع 38 مليونًا ، ثم إنفاق مبلغ 15 مليونًا أخرى، دون إتمام الغرض الذي صُرفت من أجله كل هذه المبالغ.
جدير بالذكر أنه رغم كل الاتهامات بالفساد التي وجهت للفقي، وكل المسؤولية التي حملها الجهاز المركزي للمحاسبات للفقي بإهدار المال العام والتكسب غير المشروع، إلا أنه حصل على البراءة في عام 2016، فيما يراها البعض براءة لا تختلف كثيرًا عن براءة حسني مبارك وقيادات الحزب الوطني المنحل!
ماسبيرو بعد الثالث من يوليو
بعد الثالث من تموز/يوليو 2013 جاءت درية شرف الدين على رأس وزارة الإعلام، لتدخل عبر ماسبيرو دوامة إهدار المال العام، الذي يبدو أن مبنى ماسبيرو يغري لذلك، فخصصت 100 مليون جنيه مصري من أجل مداخل ومخارج ماسبيرو، على الرغم من توقف العاملين عن العمل وقتها لثلاث سنوات.
وفي أيار/مايو 2015 وقعت حادثة مفصلية في مسيرة العملاق ماسبيرو، عندما انقطع التيار الكهربائي عن المبنى لعشرين دقيقة كاملة، وعيله حُوّل كل من رئيس الإدارة المركزية للخدمات الفنية، ومديري عام إدارتي الكهرباء والضغط العالي ومولدات الكهرباء في ماسبيرو إلى محاكمة تأديبية بقرار من النائب العام.
حينها أعلن عصام الأمير، رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون، بأن الانقطاع ناتج عن تذبذب التيار الكهربائي نتيجة للانقطاع المتكرر للكهرباء، ما أدى إلى عطل فني مفاجئ في اللوحة الرئيسية المسؤولة عن نقل الكهرباء لاستوديوهات التليفزيون المصري الأولى والثانية والفضائية المصرية، نافيًا أن يكون السبب نتيجة عمل تخريبي أو شبهة جنائية.
وتكشف هذه الحادثة وتصريحات الأمير، عن طبيعة الإهمال الذي تعرض له أكبر أكبر مباني الإذاعة والتلفزيون في الشرق الأوسط، ففي حين كان الوزراء حريصين على تجديد مداخل المبنى ومخارجه، أو إقامة الحفلات وإنتاج الأغنيات؛ لم يتلفت أحدهم إلى ضرورة تجديد أو حتى إصلاح كهرباء المبنى!
لاحقًا أعلن عصام الأمير بنفسه عن مشاكل ماسبيرو بوضوح، فكشف عن أن ماسبيرو الذي تتخطى ميزانيته ثلاث مليارات جنيه سنويًا، يتعرض لخسائر سنوية تفوق 100 مليون جنيه، مع حجم عمالة يفوق 35 ألفًا!
ويمتلك اتحاد الإذاعة والتلفزيون أصولًا ضخمة من أراضٍ وعقارات غير مستغلة. لذا يطرح البعض، بمن فيهم عصام الأمير، مقترح بيع جزءٍ منها لسداد ديون ماسبيرو، ولإنتاج محتوى قادر على المنافسة وتحقيق الأرباح لإنعاش العملاق المنهار.
ولا يزال ماسبيرو يحقق الخسارة تلو الأخرى، فبعد أن كانت ديونه مقدرة بنحو 22 مليار جنيه في 2015، وصلت في أبريل/نيسان الماضي إلى نحو 32.8 مليار، إضافة إلى تسعة مليارات جنيه متداولة مع جهات أخرى.
لا يزال ماسبيرو يحقق الخسارة تلو الأخرى، فبعد أن كانت ديونه 22 مليار جنيه في 2015، وصلت هذا العام إلى نحو 32.8 مليار
تثقل ديون ماسبيرو الخزانة العامة للدولة، وهي كما يبدو نتاج سوء إدارة مشوب بفساد مالي وحالات كسب غير مشروع يُغري عملاق الإذاعة والتلفزيون بها، مع انعدام الرقيب والحسيب على إداراته على مدار عقود طويلة.
اقرأ/ي أيضًا: