مع اندلاع انتفاضة 17 تشرين في لبنان، في خريف عام 2019، خصّصت القنوات التلفزيونية ساعات طويلة يومية من بثّها اليومي لتغطية أخبار الانتفاضة والمنتفضين، وأوقفت معظم برامجها المعتادة، ونشرت مراسليها في الشوارع والساحات، لتغطية الأحداث دقيقةً بدقيقة، ونقل آراء وتعليقات المنتفضين مباشرة على الهواء. وفيما صدق البعض أن الإعلام اللبناني المرئي يقف بمعظمه إلى جانب الانتفاضة، لم يلبث أن ينكشف الوجه الحقيقي للقنوات التلفزيونية، إذ تبدّى بشكل واضح أن كل واحدة منها تعمل لأجندتها الخاصة، وتحاول الاستفادة من الزخم في الشارع وتحويره بشكل يخدم مصالح صاحب هذه القناة، أو الممولين الذين يدرّون أموالهم على القناة مقابل أن تحقّق هذه الأخيرة مصالحهم.
تبقى برامج الاستقصاء عن الفساد وأسباب التدهور الاجتماعي والسياسي عبر الشاشات اللبنانية، على تنوعها، رهن حملات سياسية واصطفافات شبه معلنة
القنوات اللبنانية التي ادّعت على الدوام أنها صوت الشارع ونبضه، وأفردت المطولات لانتقاد المنظومة السياسية بلغة فضفاضة وحمّالة أوجه، بدون أن تجرؤ على تخطي الخطوط الحمراء وتسمية الأمور بمسمياتها، لم تتوانَ عن استضافة السياسيين من الصف الأول، ومنحهم ساعات طويلة من الهواء المباشر، لتلميع صورتهم ومحاولة تضليل الرأي العام، وأبرز الأمثلة في هذا المجال كانت استضافة تلفزيون الجديد لوزير الخارجية السابق جبران باسيل في أوج انتفاضة 17 تشرين في مقابلة مطوّلة، بدا محاوريه فيها متقاعسين، وكانت الأسئلة بعيدة عن خطاب وهواجس المنتفضين في الشارع.
اقرأ/ي أيضًا: انتقادات حقوقية لمستوى التضييق على الصحفيين ووسائل الإعلام في باكستان
وفي الوقت الذي اشتدت فيه الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، لتصل إلى مستويات غير مسبوقة، وفيما لا تزال المصارف تحتجز أموال المودعين وجنى أعمارهم، كانت القنوات تستضيف المصرفيين من أصحاب المصارف ومستشاريهم، وتعمل على تلميع صورة هذا المصرف أو ذاك، بحسب تقاطع مصالحها معه، أو التصويب عليه بشكل مبالغ به لتصفية حسابات شخصية أو سياسية، في ظل التداخل الكبير بين النظام السياسي والمصرفي، وتشابكهما مع الصحافة والإعلام، فيختلط الحابل بالنابل، ويصبح المشاهد والمتابع عاجزًا عن معرفة الحقيقة بشكل جليّ، والتحديد على وجه الدقة، هوية المسؤولين الذين أوصلوا البلاد إلى الدرك الأسفل.
ومن أبرز الامثلة الفاضحة في هذا المجال، كان برنامج الإعلامي مارسيل غانم "صار الوقت" الذي تعرضه قناة إم تي في المملوكة لرجل الأعمال ميشال المر، والذي يقدّم نفسه على أنه صوت الصورة وضميرها، والناطق باسمها، لكن حلقاته المتتالية وطريقة إدارة غانم للحوارات، والفقرة التي يخصصها لشقيقه جورج، أثبتت الدور الواضح للبرنامج في تلميع صورة المصارف، من خلال تحريف الحقائق وتزييفها، لتبرئة المصارف والنظام المصرفي من مسؤولية الانهيار الذي أصاب النظام المالي والاقتصادي في لبنان، وتدهور سعر صرف عملته أمام الدولار الأمريكي.
طريقة تعاطي قناة إل بي سي مع الأزمة لم تكن أفضل، فالمحطة تحاول إظهار نفسها كقناة مستقلة تعارض جميع السياسيين والأحزاب، وتطلق بين كل فترة وأخرى حملات كشف الفساد والفاسدين في نشراتها الإخبارية وفي برامجها، لكن لا يصعب على المتابع اليقظ أن يتنبّه إلى أن هذه الحملات موجّهة، وتزداد وتخف بحسب مصالح من يدفع المال لمالك المحطة، مع تزايد الحديث عن نفوذ لبهاء الحريري في القناة، وتسخيرها جزء كبير من مساحتها لمساعدته في بناء زعامة سياسية. وفي ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها لبنان، والتي تنعكس على الإعلام بطبيعة الحال مع شح الدولار وانهيار سعر صرف الليرة، فإن "الفريش دولار" تكون كلمته أقوى وتأثيره أكبر، والإعلام سيلمّع صورة من يدفع أكثر.
وإذا كان الحال في المحطات التي تقدّم نفسها على أنها نصيرة المنتفضين والناطقة باسمهم، ليس سوى انتهازية وازدواجية معايير ومحاولة الاستفادة من الانتفاضة للحصول على المكاسب المالية والسياسية، فما البال بخصوص القنوات التي تتبع بشكل مباشرة إلى الأحزاب كالمنار التي هي لسان حال حزب الله، وإن بي إن التابعة لحركة أمل وأو تي في الخاصة بالتيار الوطني الحر "حزب رئيس الجمهورية"؟
اقرأ/ي أيضًا:
وسم "غرّد كأنها حرة" يستدعي ذكريات الشتات الفلسطيني ومخيلة العرب