أدّى إيقاف المسار الانتخابي، الذي أفرز فوز الإسلاميين في الجزائر عام 1992، إلى عشرية من العنف والإرهاب اصطلح على تسميتها بالـ"عشرية السوداء"، وخلّفت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمعطوبين والمفقودين والمهجّرين. حيث كان الجزائري لا يدري، على مدار سنوات، إن كان سيعود إلى بيته إذا خرج منه، أو يخرج منه إذا دخله. وكان الحل عند الكثيرين أن التفوا حول مؤسسة الجيش الوطني الشعبي، أملًا أن لا تسقط مؤسسات الدولة وينهار كل شيء.
أقدم التلفزيون الجزائري الحكومي على بث وثائقي بعنوان حتى لا ننسى، وقد تضمن مشاهد مرعبة من العشرية السوداء وهو ما استفز الجزائريين
ولأن القاتل والمقتول كانا ينتميان إلى النسيج الاجتماعي نفسه، تبيّن للحكومة والمؤسسة العسكرية، بعد تجربة فاشلة في الاستئصال مع الإسلاميين المسلّحين، فأطلق الرئيس الأسبق اليمين زروال، قانون الرحمة القاضي باستعداد الدولة لأن تعفو عن المسلّحين الذين يسلّمون أنفسهم وأسلحتهم، ثم تطوّر القانون إلى مصالحة وطنية، في عهد الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، حيث وافق الجزائريون على الخطوة، في استفتاء تاريخي عام.
اقرأ/ي أيضًا: الإسلاميون في الجزائر...المجد الضائع
أفضى القانون إلى حلّ تنظيم "الجيش الإسلامي للإنقاذ" الجناح العسكري لـ"الجبهة الإسلامية للإنقاذ" المحظورة لنفسه، ونزول آلاف المسلحين من الجبال، وانخراطهم في المجتمع من جديد.
ولكي تحمي الحكومة هذا الإنجاز، أوعزت إلى منابرها الإعلامية المختلفة، بتجنّب الإشارة إلى ما يذكّر الجزائريين، ضحايا وجناةً، بالتجربة القاسية التي عاشوها، والعمل على تعزيز شعار "عفا الله عمّا سلف" الذي رفعه الرئيس بوتفليقة، ورافع من أجله في تجمّعاته الشعبية، التي أقامها في معظم الولايات. بل إن المادة 46 من قانون المصالحة نفسه أقرّ عقوبات على أي طرف يستعمل المأساة الوطنية "لأغراض خبيثة".
قبل أيام قليلة، ولأوّل مرّة منذ إقرار "ميثاق السلم والمصالحة"، أقدم التلفزيون الجزائري الحكومي، على بثّ شريط وثائقي حمل عنوان "حتى لا ننسى"، وقد تضمّن، في 34 دقيقة، مشاهد مرعبة من العشرية السّوداء. مجازر وتفجيرات وهجومات راح ضحيتها أطفال ونساء وشباب وشيوخ وعسكريون.
تزامن بثّ هذا الشريط الوثائقي، مع ذكرى إقرار المصالحة الوطنية، ومخالفة محتواه لأمر الحكومة سابقًا بتجنّب استفزاز الشعب، بخصوص أحداث العشرية السّوداء، وهو ما جعل قطاعًا واسعًا من الجزائريين يفهمون الأمر على أنه تحذير من الحكومة لهم من مغبّة العودة إلى التجربة نفسها، في حالة قيامهم بأيّ خطوة احتجاجية على سياساتها، التي عبّروا عن رفضهم لها. منها سياسة التقشّف، بعد هبوط أسعار النفط، وتوقيف نسبة كبيرة من المشاريع التنموية، وسحب الاعتمادات المالية الخاصّة بالمشاريع التي لم تنطلق بعد، وغلق باب التوظيف في كثير من القطاعات، والتلويح بإمكانية عجزها عن دفع أجور العمّال بدءًا من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الدّاخل، كما تطرق إليه "الترا صوت" في مواضيع سابقة.
فهم الجزائريون بث الشريط عن العشرية السوداء كتحذير من الحكومة من مغبة العودة إلى التجربة نفسها في حال احتجاجهم على سياساتها
لم تمض إلا دقائق قليلة على نهاية البثّ، حتى سارع رواد شبكات التواصل الجزائريون إلى التعليق، بل إن بعضهم فعل ذلك أثناء البثّ نفسه. وقد وقع شبه إجماع على أن الحكومة لم تجد من وسيلة لحماية نفسها من الغضب الشعبي المكبوت، إلا تخويف الشعب من العودة إلى سنوات الجمر، "وهذا مظهر من مظاهر غباء الحكومة وابتزازها للمواطنين"، يقول المعلّق الرياضي الجزائري المعروف حفيظ درّاجي.
ويضيف حفيظ دراجي: "ما قام به تلفزيون الحكومة من استغلال لصور شهداء العشرية الحمراء هو تعدٍّ صارخ على الأخلاق والقيم الإنسانية والذاكرة الجماعية للجزائريين، لن يزيدنا سوى إصرارًا على تجنيب الجزائر نفس السيناريو". ويخاطب حفيظ درّاجي الآمرين بالبث بالقول: "لن يزيدنا هذا الاستفزاز سوى يقينًا أنكم تشكلون خطرًا على الأمة وتريدون مساومتنا بين السكوت عن الفساد أو العودة إلى الفوضى".
اقرأ/ي أيضًا: عن سنوات المصالحة العشر في الجزائر..
ويسأل الطالب الجامعي أسامة ح. في حديث لـ"الترا صوت": "هل أدركت الحكومة أن زمن إلهاء المواطنين بقضايا ونقاشات تافهة، لم يعد مجديًا، فانتقلت إلى زمن التخويف؟ لماذا تعمد إلى حماية نفسها بمثل هذه الطرق العارية من الذكاء، عوض حمايتها بالعمل والنزاهة والحرص على المال العام؟". يضيف: "لم يعد الشعب الجزائري محتاجًا إلى أن يذكّره أحد بالعشرية السّوداء، لكن الحكومة محتاجة إلى من يذكرها بأنها لم تكن في مستوى المصالحة، التي وافق عليها الشعب، رغم الجراحات الغائرة. فعوض أن تستغلّ السّلم الذي نتج عنها في التنمية والبناء، راحت تنهب المال العام، وتمكّن لرجل الأعمال الفاسد".
وأبدى الإعلامي محمد علّاوة حاجي اندهاشه لـ"الترا صوت" من كون التلفزيون الجزائري شرع في بث الشريط، من غير أية مقدمات أو أيقونة تنبّه إلى أن المادّة لا تناسب الأطفال وذوي القلوب الضّعيفة، "فما كان يهمه هو التسويق السياسي، ولو على حساب القيم والأخلاق الإنسانية والمهنية". ويختم محمد علاوة: "لقد برهن التلفزيون الجزائري، الذي يغرف من الخزينة العامّة وأموال الضرائب، عن عجزه عن إنتاج عمل مهني ومسؤول عن المأساة الوطنية، بعيدًا عن الخلفيات الدعائية المخلّة بروح المجموعة الوطنية، التي انطلق منها مشروع المصالحة الوطنية أصلًا".
اقرأ/ي أيضًا: