يمكننا تعريف الثورة بشكلٍ مبدئيّ على أنَّها: التمرُّد على السُّلطة، بهدف تغييرها. وكل حِراك جماهيريّ يعقبها من الطبيعي أن يكون حراكًا ثوريًّا يعتمدُ التمرد على السلطة ومحاولة تغييرها هدفًا له، وما عداه من تحرُّكات لا تمسّ تغيير الطبقة الحاكمة ربما لا يمكن إطلاق توصيف الثورة عليه.
يمكننا وصف العملية الثورية، بأنها عملية غير واعية بذاتها، على اعتبار أن الوعي يأتي كخطوة ثانية
لا أودّ أن أسهب كثيرًا في الحديث عن الجولات الثورية مع السلطة التي قد تستمرّ لعشر سنوات أو أكثر كما يكشف لنا التاريخ. لكن يُمكننا في المقابل أن ننطلق من أنّ التحركات الجماهيريَّة (سواءً سُميت حِراكًا أو انتفاضة أو ثورة) تكون عفويَّةً بدرجة كبيرة، وربما عشوائيَّة وغير منظَّمة، كما أن حالة الغضب الدافعة لها، قد لا تكون مبلورة في مطالب سياسية محددة، بسبب عدم امتلاكها ما يمكن تسميته بـ"الوعي الطبقي" اللازم لإحداث تغيير جذري.
على هذا يمكننا وصف العملية الثورية، بأنها عملية غير واعية بذاتها، على اعتبار أن الوعي يأتي كخطوة ثانية. في البدء يكون الغضب المكبوت الذي ينتظر من يحركه، حتى تأتي اللحظة الفاصلة فتخلق معها مجالًا مفتوحًا لانفجار هذا الغضب اللاواعي، وفي النهاية تُستخدم اللحظة كوسيلة ضغط من طرف أو غيره من أطراف الثورة.
وفي حال تحليل هذه اللحظات الفارقة، التي تُشكّل جزءًا لا يتجزأ من الرمزي والمتخيل في ذهن الجموع المتحركة، يمكن إذًا اعتبار هذه اللحظات الثورية غير واعية بدرجة ما. في التقييم النهائي، يُمكن النظر إلى الثورة المصرية، وغيرها من الثورات العربية، باعتبارها تحركات عفويّة/لا واعية بلحظاتها التاريخية التي مُوضعت فيها وتحركت من خلالها. ويظهر هذا من الارتباك البادي على المطالب التي رُفعت في الميادين، بدايةً من إعلائها شعارات الإصلاحات السياسية، قبل أن تتطور لـ"الشعب يريد إسقاط النظام"، لكن المفارقة خفوت ضجيج هذا المطلب مع إزاحة الرؤساء، الذين هم بالتعريف يمثلون رؤوس الأنظمة فقط.
الحديث الأكثر عُمقًا ووعيًا عن الثورة لا يكون باعتبار ما هو سياسيّ في المقام الأول، كما أريد للثورات دومًا أن تُحتوى من قبل الثلَّة الحاكمة، وخطابها السائد المُكرّس له؛ وإنما من خلال الطبقيّ. «الوعي الطبقي» هو المطلوب لدى فئات الثوَّار المهزومة، أو التي شارفت على الهزيمة، أو التي لا تزال تعتقد بأنّ الثورة «مستمرَّة».
باستقراء ما حدثَ في أغلب بلدان الثورات العربيَّة، تمكَّنت (أو تحاول) الطبقة الحاكمة من إزاحة رموز الصفوف الأولى، في مقابل تصعيد أوجه أخرى من نفس الطبقة، تكون أكثر قبولًا على المستوى الشعبويّ، قد يكونون أصلًا من سدنة معبد السلطة في العهد «السابق». في النهاية تأتي الوجوه الجديدة لتَعد بنظام أكثر تعدًّديةً وديمقراطيَّةً وعدالة، ليتناسى الثُّوار تمامًا أنّ هذه الوجوه الجديدة ليست سوى أدوات لنفس الطبقة لإحكام السيطرة على الثورة والالتفاف عليها، ومن هنا أمكن الحديث عن «الثورة المضادة» التي تُخالف بشكلٍ أساسيّ تعريف الثورة، والذي اعتمدناهُ في بداية المقال، فالطبقة الثائرة لم تحكم من الأساس لتقوم عليها ثورة أُطلقَ عليها مُضادَّة.
رُغم كلّ الأحداث التي جعلت ثوراتنا العربيَّة مأزومة، إلا أنَّهُ يمكن تلمُّس ظهور «الوعي الطَّبقيّ» اللازم للتغيُّرات الجذريَّة
الخطأ الآخر الذي لم نعيه كثوَّار هو الخلط بين المفاهيم، كان يلزمنا أن نكون على دراية بالمصطلحات والمفاهيم التي تشكِّل في بُعدها الأعمق تفكير مُنتج الخطاب ومُكرِّسُه.
رُغم كلّ هذه الأحداث التي جعلت ثوراتنا العربيَّة مأزومة، ورغم أنّ الطبقة الحاكمة لم تتغيَّر في دولةٍ واحدة من دول «الرَّبيع العربي»، إلا أنَّهُ يمكن تلمُّس ظهور «الوعي الطَّبقيّ» اللازم للتغيُّرات الجذريَّة. يظهر هذا في إجابة أعداد هائلة من الثَّوار على سؤال: ماذا يريدون؟! ويتمظهر هذا في انطلاق البعض منهم في تحدي سُلطة الأسرة المفروضة مجتمعيًّا، ومحاولات الاستقلال الماديّ، وخلخلة القواعد السائدة في المجتمع حول موضوعات شائكة كخلع الحجاب والمساحة النسوية التي بدأت في اتخاذ موضعها في المجال العام، وبالجملة، يمكننا بسهولة ملاحظة التغيُّر الجليّ في الخطاب الثوري على عدَّة مستويات ليس هذا محلّها.
الوعي الضروريّ جعلنا كـ «ثُوَّار» نهرع للكتب التي تحدَّثت عن الثورات وتاريخها، وتحليلها الاجتماعيّ، ومعرفة ما قمنا بِهِ وتحليلهِ تحليلًا نقديًّا واسعًا، للاستعداد لما يمكن أن نسمِّيهِ جولاتٍ أخرى، على مستوى الوعيّ الفرديّ المتمثِّل كأكبر دليل في كتابة هذا المقال الذي لم أكن لأكتبهُ يومًا (أو أعيه) لولا أن قامت ثورة غيَّرت حياتي تمامًا.
هذا الوعي ربَّما لم يغيِّر واقعًا، إذ إنّ الواقع هو الذي يُشكِّل الوعي وليسَ العكس، لكنَّهُ بالطَّبع أحدث تغييرًا هامًّا على مستوى شرائح كبيرة ومتعددة من الشباب، الذين جمعهم همٌّ طبقيّ، لم يكن واعيًا حينها، واكتسب وعيهُ بالهزيمةِ الأولى. على الأقلّ سيكون هذا الوعي خطوةً على الطَّريق الطَّويل للثورة.
اقرأ/ي أيضًا: