من ضمن ما فجرته الثورات العربية عامة، والاحتجاجات في فلسطين المحتلة خاصة، من مسائل حول إمكانية التحول الاجتماعي، تبرز مسألة العلاقة بين الجامعات العربية والمجال العام كمسألة محورية تشكل مكنزًا للمثقفين والمفكرين، لأن تقاطعاتها مع تاريخ المجتمع وتحولاته وتركيبة النظام السياسي تعين على تفسير الكثير من الظواهر وكذلك على تقديم نقد للواقع الراهن، ولكي نتمكن من تناول هذه الظاهرة ينبغي علينا تعيين التمفصلات التي رافقت مسيرة المؤسسات الجامعية العربية وعلاقتها بالمجتمع والنظام.
من مجانية التعليم إلى "لبرلة" الإقتصاد
تاريخ الجامعات العربية، جميعها، حديث. وقد أنشئت أوائل الجامعات العربية في مطلع القرن العشرين نتاجًا لحركات نخبة وتنوير مثل جامعتي دمشق والقاهرة، وكذلك جامعة بيرزيت، ولكن أغلب الجامعات في العالم العربي كانت نتاج دولة الاستقلال بعد تصفية الاستعمار في منتصف القرن العشرين، ومن هنا تميزت هوية الجامعة بمرحلتين، مرحلة إنتاج النخبة، ثم الانتقال إلى مرحلة اعتبار التعليم الجامعي بمثابة وسيلة رقي طبقي أمام الفقراء بعد إقرار مجانية التعليم، وقد كان هذا التحول تمفصلًا في مسيرة وتشكل الدور السياسي للمجتمع الطلابي.
تميزت هوية الجامعة العربية بمرحلة إنتاج النخبة، ثم مرحلة اعتبار التعليم الجامعي بمثابة وسيلة رقي طبقي أمام الفقراء بعد إقرار مجانية التعليم
من المقولات المهمة في تفسير أزمات النظام العربي القمعي أنه بطبيعته يحمل بذرة انهياره في داخله، ولربما كان أوضح مثل على هذا: المؤسسات الجامعية، فمع ظهور دولة الاستقلال والأنظمة الجمهورية، دفع الصدق الأيديولوجي الأنظمة الى إقرار مجانية التعليم بالتوازي مع تصميم نظام عشوائي للانتساب إلى الجامعة، أجهز النظام، إلى حد كبير، على هويتها المكرسة باعتبارها مؤسسة إنتاج نخبة.
لم يتم تصميم نظام تسجيل يربط الانتساب للجامعات بالتراكم والتحصيل في المرحلة المدرسية، وبالتالي أصبح دخول الجامعة "تحصيل حاصل"، وانحصرت عمليات تنظيم الانتساب على أساس التحكم في دخول الكليات واختيار التخصصات، ومجانية التعليم خطوة تحديثية و"عادلة" من ناحية مبدئية عند التحدث بصورة معيارية، ولكن التعامل معها ينبغي أن يكون مدروسًا ويجب أن تترجم بصورة مركبة ومعقدة لأنها تفتح الأبواب لكوارث كثيرة تخص التعليم ومستواه في المقام الأول، إذا لم يتعامل معها بحذر، وهذا ما أغفلته "اندفاعة" دولة الاستقلال في منتصف القرن العشرين.
مع تحلل الأيديولوجيا وترسخ الأنظمة العربية، بدأت عمليات "لبرلة" الاقتصاد، وقد كانت عمليات فاشلة غالبًا افتتحت مرحلة الفساد الممأسس في جهاز الدولة، والارتباط بين رأس المال والنظام السياسي، وهنا حدث تغييران مهمان.
الحدث الأول هو أن الاقتصاد العربي لم يتطور فعليًا إلى مرحلة التصنيع، وبالتالي لا معنى للتوسع في بناء المعاهد الفنية والمهنية كطريق آخر يخفف الضغط عن الجامعات ويعيد لها هويتها النخبوية من جانب، ويوظف الطاقات البشرية بصورة جيدة من جانب آخر، لأن المعاهد الفنية تحتاج الى سوق عمل ضخم في اقتصاد إنتاجي يستوعب مخرجاتها، وهكذا أصبحت الجامعة وسيلة التصريف الإجبارية الأولى لشريحة الشباب، وهنا تم الإجهاز تقريبًا على الوظيفة الاجتماعية للجامعة، والتي كانت تؤديها بصورة جيدة في بدايات دولة الاستقلال، باعتبارها وسيلة ترق طبقي.
وانعكست لتصبح عامل إفقار إضافي للأسرة، وهو عامل إفقار ضاغط ومزدوج، إذ تشكل مصاريف التعلم مشكلة مادية لأسر الطبقتين الفقيرة والمتوسطة مع غياب سوق عمل ضخم يستوعب الطلاب أثناء دراستهم لتخفيف الضغط على الأسرة. كما أن الاقتصاد الرث وفساد جهاز الدولة يراكم معدلات البطالة وهكذا تصبح الجامعة عامل ضغط وإفقار حتى بعد مغادرة الطالب لها، بالإضافة الى انتشار الجامعات الخاصة والتي ذهبت بعيدًا في ضرب فكرة الجامعة باعتبارها مظهرًا اجتماعيًا، وتحويلها الى إحدى تمظهرات التفاوت الطبقي.
أما الحدث الثاني فهو ما يسميه السوسيولوجيون "التوسع المؤسساتي المنفلت"، فقد ارتفع عدد الجامعات الحكومية إضافة إلى الاهتمام بالجانب الكمي كإحدى وسائل امتصاص الغضب الاجتماعي وترسيخ وهم التنمية، وأدى هذا إلى انتشار مؤسسات جامعية رديئة البنية التحتية في نواح مختلفة وفي البلد الواحد.
الحصاد المر
كما أوضحنا آنفًا، كانت هناك نتائج كارثية لسياسات الدول العربية غير المدروسة ابتداء والفاسدة بعد ذلك إزاء الجامعات، ولكن المفارقة هنا هو أن هذه السياسات أنتجت، عن غير قصد، كثيرًا من الجوانب الإيجابية على مستوى الفضاء العام والتي تستحق إنعام النظر.
فمجانية التعليم وعدم ربط الانتساب للجامعة بالتراكم المدرسي مكن كتلًا واسعة من دخول فضاء الجامعات، ومع ترافق هذه السياسات مع مرحلة التحرر والصراع العربي الإسرائيلي والحرب الباردة، أصبحت الجامعة فضاء أدلجة ونقاشات سياسية محمومة ومؤثرة بسبب الكتلة الوازنة والمتزايدة للمجتمع الطلابي، وبهذه الملاحظة يمكننا تفسير دور اتحادات الطلاب في كثير من الانتفاضات التي شهدتها المجتمعات العربية في السبعينيات والثمانينيات، مثل انتفاضة الخبز في تونس في عام 1984، والتي بلغت ذروتها في عام 2011 وتحولت إلى ثورات، كما يمكن لنا تفسير تشكل نواة بعض القوى السياسية العربية من روابط طلابية في الجامعات في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، مثل التنظيم الناصري في اليمن والذي تشكل من روابط لطلاب يمنيين في جامعات مصرية.
لم تكن الجامعة العربية يومًا مؤسسة نخبوية تعيش في عالم "مفارق" نسبيًا للمجال العام بل مؤسسة جماهيرية من صلبه
من جانب آخر، كانت "لبرلة" الاقتصاد وفساد جهاز الدولة عامل ربط بين الجامعة والفضاء العام، فالجامعة العربية لم تكن يومًا مؤسسة نخبوية تعيش في عالم "مفارق" نسبيًا للمجال العام، بل مؤسسة جماهيرية تقع في صلبه، وكانت كل خطوة في عمليات "لبرلة" الاقتصاد تمس الحيز الخاص بالطالب الجامعي مباشرة لما يترتب عنها من بطالة وإفقار للأسرة وسحق طبقي، بالإضافة إلى أن التوسع المنفلت وغير المدروس للجامعات شجع ابتداء الهجرة الداخلية والانصهار الاجتماعي، ثم أنه سمح لكتل في الاطراف والأرياف وبعيدة عن المركز بدخول الفضاء العام عبر الجامعة وما يتبع ذلك من تشكل للوعي السياسي/الاجتماعي بالمظالم والمشاكل الاجتماعية ومسؤولية النظام عنها، بما فيها، إشكالات الجامعة ورداءة بنيتها التحتية.
وقد تعاظم أثر هذا العامل مع تطور تقنيات الاتصال التي تسمح للمجتمع الطلابي بالمقارنة والتقييم والنقد والتي تعيق نسبيًا عمليات الدعاية الشعبوية التي يقودها النظام، خاصة وأن تدخل الأجهزة الأمنية في حيز الجامعة يتميز بصراحة وقحة، بحيث يوجد مندوب من جهاز الأمن في الجامعة في بعض الدول العربية، إن لم يكن كلها!، وهذا يساعد كذلك على تشكيل وعي الطلاب بحقيقة "النظام"، إذ يحتكون به مبكرًا وبأكثر أوجهه المعبرة عنه وهو وجهه القمعي.
أخيرًا، هناك تطور مهم لم يلتفت له بالشكل الكافي يخص بنية الجامعة وموقعها، فقد تم بناء الجامعات ابتداء في مدن جاهزة، أي أن الجامعات العربية غالبًا هي جامعات مدن، وحتى في الحالات التي كان التخطيط الأولي للجامعة يزمع تحويل مكانها إلى مدينة جامعية، كان فساد جهاز الدولة الممأسس والذي أضحى يتحرك بالدفع الذاتي كنظام داخلي محايث، كفيلًا بإجهاضها بسبب البناء العشوائي والذي قضى على امكانية تحويل حيز الجامعة إلى حيز نخبوي.
وهكذا ضمن فساد الدولة تطابق حيز الجامعة مع بنيتها، وكان لهذا أثر مهم في عمليات تنظيم المظاهرات والانتفاضات، فاحتكاك المجتمع الطلابي بالمجتمع المحلي سهل وسريع، وهذا أمر تضمنه "جامعات المدن" أكثر بكثير من "مدن الجامعات"، بلغة الجغرافيين، وكان هذا وبالًا على الأنظمة العربية في فترات الانتفاضات والمظاهرات والتحشيد، والأمثلة كثيرة على هذا وأكثرها دلالة هنا هي الثورة اليمنية في فبراير 2011، حيث كان الشارع المقابل لبوابة جامعة صنعاء هو مقر الاعتصام ونواة "ساحة التغيير".
الجامعة والطلائع الاجتماعية
ترتبط أزمة الجامعة بأزمتي المدينة والنظام، وغليان مجتمعها نتاج هذا الارتباط، وبعد تجارب مختلفة أجمعت الأنظمة العربية مبكرًا على إحكام سيطرتها على المؤسسات الجامعية بالمعنيين السياسي والأمني. الإصرار على عسكرة الجامعات وتزوير انتخابات الاتحادات الطلابية والعمل الدؤوب على تجنيد الأجهزة الأمنية طلابًا جامعيين، هو نتاج "خبرة" النظام طوال عقود في تعامله مع المجتمع.
ترتبط أزمة الجامعة بأزمتي المدينة والنظام وغليان مجتمعها نتاج ُهذا الارتباط
وكالعادة فإن استنتاجات الأنظمة القمعية العربية تذهب نحو التضييق والسلطوية وليس نحو الإصلاح، وقد كانت أخر الاستنتاجات التي توصل إليها النظام المصري في هذا الشأن، إقرار ما يسمى التوزيع الإقليمي، بحيث تم منع دخول طلاب الأقاليم لبعض كليات جامعة القاهرة، ثم تم التراجع، أو الالتفاف على هذا القرار بعد ذلك، ولكن ما يهمنا هنا هو دلالة القرار وتبريراته وما يشير إليه.
إنه يشير إلى نظام فاشي رث، وليس عاتيا حتى، ولكن الأهم هنا هو أنه يؤكد لنا، في التحليل الأخير، أن مستقبل التغيير السياسي في العالم العربي يرتكز على الحركات الطلابية كمشروع طلائع وطنية مسيسة، خاصة مع الأزمة التي تعيشها المدينة العربية منذ عقود وانهيار وضعف كثير من المؤسسات والكيانات المدنية نتيجة "لبرلة" الاقتصاد مثل النقابات والتعاونيات، وعليه فإن رهان الديمقراطيين العرب يجب أن يكون في جزء كبير منه على المجتمعات الطلابية، فهي المؤهلة، من الناحية النظرية، لإنجاز تسييس مختلف للقضايا الاجتماعية لأنها تعيش هذا الزمن، وليس زمن الحرب الباردة الذي تعيش فيه القوى السياسية العربية.
كما ان ارتباط الجامعات بالمجال العام عربيًا، واحتكاك حيز الجامعة بالمجتمع من جهة، وعرض شريحة الشباب في المجتمعات العربية من جهة أخرى، يضمن كتلًا بالإمكان البناء عليها لإنجاز تحولات في المفاهيم الأساسية للعمل السياسي تسمح بإنجاز تحول ديمقراطي وتحرري، خاصة بعد الضربات الموجعة للثورات العربية والتي "قد" تجعل وعي الشباب أكثر تركيبًا وتزيل عنه السذاجات التي كانت تميزه طوال الفترة الانتقالية.
وقد أظهرت تجربة المرحلة الانتقالية في الدول العربية التي شهدت ثورات عام 2011، أن إنجاز هذه التحولات أمر لا مندوحة عنه، فقيادات القوى السياسية العربية "المعارضة" أثبتت أنها غير قادرة من الناحية البنيوية على إحداث تحول ديمقراطي/تحرري، بل وفي أحيان كثيرة، هي على استعداد لأن تكون ترسًا في ثورة مضادة لثورة ديمقراطية، أو ترسًا مكملًا لماكينة احتلال.
اقرأ/ي أيضًا: