على مدار سنوات الاستقلال من المستعمر الفرنسي، في الجزائر، 1962، ظلّ النضال من أجل الاعتراف بملامح الهوّية الأمازيغية هاجس نخبة واسعة من الأمازيغ، الذين يشكّلون نصف إجمالي السكّان في البلاد. ووقعت في هذا المسار تظاهرات كثيرة خلّفت الكثير من الجرحى والقتلى والمساجين أبرزها ما سُمي "الربيع الأمازيغي" عام 1980 وعودته في سنوات لاحقة خاصّة عام 2001.
في السنوات التي تلت الحصول على الاستقلال في الجزائر، تتالت التحركات من أجل الاعتراف بالهوية الأمازيغية ومقوماتها وأخذت منحًا انفصاليًا أحيانًا
أدّت هذه النضالات بالسلطة السياسية إلى أن تتدرّج في الاعتراف بالهوية الأمازيغية للجزائريين. بدءًا بسماحها بتدريس اللغة الأمازيغية في بعض المحافظات النّاطقة بها، مثل بجاية وتيزي وزو والبويرة، في تسعينيات القرن العشرين، وتأسيس "المحافظة السّامية للأمازيغية" عام 1995، ووصولًا إلى اعتماد اللغة الأمازيغية لغة وطنية ضمن التّعديل الدّستوري في شباط/ فبراير عام 2016، فتوقيع رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة يوم 27 كانون الأول/ ديسمبر الماضي مرسومًا رئاسيًا يقضي باعتبار رأس السنة الأمازيغية الموافق لـ12 كانون الثاني/ يناير عيدًا وطنيًا وعطلة مدفوعة الأجر.
تاريخيًا، يزيد التّقويم الأمازيغي عن التّقويم الميلادي المعتمد عالميًا بـ950 سنة، أي أنّ الأمازيغ مقبلون على سنة 2968 بعد أيّام. وهو تقويم زراعي بامتياز انسجامًا مع الرّوح الزّراعية في شمال أفريقا، حيث يمتدّ النّطاق الأمازيغي سابقًا من واحة سيوا في مصر إلى جزر الكناري في إسبانيا. واختلفت الرّوايات التّاريخية في أصل هذا التّقويم، غير أنّ أكثرها انتشارًا تنسبه إلى انتصار الملك الأمازيغي شيشنق (950 ـ 929 ق. م) على الفرعون المصري وتأسيسه للأسرة الثانية والعشرين في هرم الحكم المصري.
اقرأ/ي أيضًا: احتفالات رأس السنة الأمازيغية.. طقوس تاريخ معتّق
يُسمّى رأس السّنة الأمازيغية لدى أمازيغ الجزائر "ينّاير" أو "ينّار". وللاحتفال به تجلّيات كثيرة، بل إننا نجد حضورًا لهذه التجلّيات حتى في المناطق ذات الجذور العربية بالنّظر إلى الوشائج التّاريخية بين القوميتين.
أشهر مظاهر الاحتفال ذبح "الدّيوك البلدية" في البيوت (ديك مربى في البيوت)، وإقامة "الوزيعة" في السّاحات، وهي جمع الأعيان للمال من السّكان وشراء رؤوس الماشية وتوزيع لحمها بالتّساوي عليهم، و"الشّرشم" وهو القمح المغلي في الماء المالح، وإعادة طلي البيوت وتجديد أثاثها، والشّروع في حراثة الأرض، "وكلّها مظاهر تدلّ على الأبعاد الزّراعية لهذا التّقويم المتميّز عن كثير من تقويمات العالم"، يقول الباحث يوسف بوذن.
يضيف محدّث "الترا صوت": "أدّى تسييس التقويم الأمازيغي في الجزائر، وتأخير اعتماده رسميًا إلى حرمان الجزائريين من تشرّب هذا البعد وتحويله إلى ثقافة يومية، وهو ما يفسر علاقة الجزائري اليوم بالزّراعة. إذ تخلّى عن فلاحة الأرض والسّماح للإسمنت بأن تغزوها، والدّخول في حالة غير مبرّرة من الاستيراد". يسأل: "هل يعقل أن تكون الجزائر من أكثر الدّول استيرادًا للقمح والحليب واللّحم بينما هي أكبر دولة عربية وأفريقية من حيث المساحة؟".
يُسمّى رأس السّنة الأمازيغية لدى أمازيغ الجزائر "ينّاير" أو "ينّار" وللاحتفال به تجلّيات كثيرة
في السّياق، قال الباحث في الثّقافة الأمازيغية محمد أرزقي فرّاد لـ"الترا صوت" إنّه يتمنّى ألا يكون إقرار رأس السّنة الأمازيغية إجازة وطنية، مجرّد خطوة سياسية لتحقيق مكاسب انتخابية عابرة لدى جماعة معيّنة، "بل يجب البناء عليها لترسيخ القيم والرّمزيات الثقافية والحضارية والإنسانية للمناسبة في أوساط الأجيال الجديدة، منها علاقة الإنسان بالأرض، والتي تقوم على حبّها واستغلالها والدفاع عنها والتشبّث بها وقبول الشريك فوقها". يشرح فكرته: "إذا كانت العبرة من الاحتفال برأس السّنة الميلادية أن نتعلّم روح التضحية من أجل الإنسانية، والعبرة من الاحتفال برأس السّنة الهجرية أن نتعلّم التمسّك بالمبدأ، فإنّ العبرة من احتفالنا برأس السّنة الأمازيغية هي أن نتعلّم حبّ الأرض".
لم تجد هذه النّظرة ما يبرّرها لدى الإعلامي والكاتب أسامة وحيد. إذ كتب على صفحته في فيسبوك: "بقدرة قادر أصبح لنهاية العام بجزائر فخامته (يقصد الرّئيس بوتفليقة) ثلاثة رؤوس: رأس سنة قاوري (نصراني) ورأس هجري ورأس سنة شيشناقي (أمازيغي)". يضيف ساخرًا: "القائمة طويلة ومن كان يملك رأس سنة آخر فنحن هنا". سأله أحد المعلّقين عن سبب هذه النظرة العنصرية إلى كلّ ما هو أمازيغي، فقال: "الحضارة لا تجامل أحدًا والتاريخ خطّ فاصل بين الوهم والحقيقة. فما هي شواهد تلك الحضارة الخرافية؟ أين لغتها وعمرانها ومخطوطاتها وتماثيلها وشخصياتها؟".
وكتب الشّاعر والإعلامي علي مغازي على صفحته في فيسبوك أيضًا: "يقول وزير الثقافة إن سنة 2018 ستكون سنة الاحتفال بالتراث الثقافي الوطني الأمازيغي. السّؤال الذي يجب طرحه: ما هو برنامج الوزارة في هذا الشأن؟ أم سيقتصر الأمر على عرض أواني الفخّار وبعض الرّقصات وصور الأوشام على الجبين! في غياب أيّ اهتمام بمشروع تدوين الموروث الشفوي الأمازيغي بكل امتداداته المتوسطية والأفريقية، والذي يمثّل أبهى صورة للانفتاح على الثقافات الأخرى!؟".
اقرأ/ي أيضًا: أسماء أمازيغية ممنوعة في المغرب!
في قرية أولاد سيدي إبراهيم، الواقعة على الحدود بين ثلاث ولايات ذات أغلبية أمازيغية هي برج بوعريريج والبويرة وبجاية، سألنا مجموعة من الشّباب الأمازيغي عن رأيهم في اعتماد رأس السّنة الأمازيغية يومًا وطنيًا وإجازة مدفوعة الأجر، فقال الجامعي كريم بونوّة، 28 عامًا، إنّ أخطر أنواع الإحساس بالغبن هو الإحساس بالتّمييز الثقافي، "لقد عشنا زمنًا جزائريًا ربطوا فيه صحة إسلامنا بأن نكون عربًا، بينما نحن أمازيغ مسلمون وجزائريون". يسأل: "لماذا بقي الأتراك أتراكًا والماليزيون ماليزيين والبوسنيون بوسنيين، إلا الأمازيغ يُراد لهم أن يكونوا عربًا؟". ويختم بونوّة: "أرجو أن يحتفل الجزائريون جميعًا هذا العام ببعدهم الأمازيغي".
يرى البعض إقرار رأس السنة الأمازيغية عيدًا وطنيًا في الجزائر خطوة سياسية لتحقيق مكاسب انتخابية لدى السلطة الحاكمة ويراها آخرون قادرة على إحراج الانفصاليين وإنهاء الجدل
وتجسيدًا لهذه الرّوح، أقدمت المؤسّسات الثقافية والمدنية في المدن التي لا تتكلّم اللغة الأمازيغية على تحديد برامج تحتفي برأس السّنة الأمازيغية، منها المسيلة التي قال مدير الثّقافة فيها رابح ظريق إن مديريته ستطلق 40 فعالية "منها ندوة حول البعد الأمازيغي لولاية المسيلة من خلال التّراث المادي، لإعطاء هذه المناسبة حقها، وإبراز البعد الأمازيغي في الولاية".
ويرى أكثر من طرف أن إقدام الرّئيس بوتفليقة على إقرار رأس السّنة الأمازيغية ضمن قائمة الأعياد الوطنية سيضع حدًّا للمزايدات السّياسية، ويجعل الانفصاليين من الامازيغ في حرج من أمرهم. في هذا السياق، يقول الفنّان عماد طيايبة لـ"الترا صوت": "بات الرّهان الأكبر لأنصار الثقافة الأمازيغية أن يجتهدوا في خلق حضور ثقافي وأدبي للغة الأمازيغية، لإنقاذها من براثن الشّفوية"، فهل هي نهاية جدل واسع في الجزائر تواصل لسنوات واستغله البعض للدعوة للانفصال؟
اقرأ/ي أيضًا:
مادغيس ؤمادي.. مشاغل اللغة الأمازيغية
تدريس الأمازيغية في المغرب مهدد بالفشل