بعد ما يزيد عن نصف قرن على استقلالها، تبقى الجزائر ذلك السؤال البليد والتافه والذي لا إجابة له. الجزائر التي تبحر في التناقض الذي يلتهمها كالصديد والذي جعل منها أرضًا غير مفهومة ووطنًا مجهولًا حتى لأناسه، وقبلة للتائهين الباحثين عن التيه من جديد، الجزائر التي لا شيء فيها منطقي سوى أن تكون أرضًا لأناس يشبهونها، أناس غير مفهومين، هم كذلك متناقضون مع أنفسهم وتاريخهم وكل شيء من حولهم. متناقضون حتى مع التناقض الذي فيهم أحيانًا، ويتناقضون مع أشد الحقائق وضوحًا أحيانًا أخرى.
قد تكون الجزائر أرض المليون ونصف المليون شهيد فعلًا، ولكنها أيضًا أرض المليون ونصف المليون خدعة مليون ونصف المليون كذب، أرض الاختفاء المحتم للحقيقة، فكما لو كانت تكتنزها تبقى هذه الأخيرة سرًا من أسرار الدولة الجزائرية والذي لا يليق للمجتمع الجزائري معرفته.
الجزائر وبعد نصف قرن من استقلالها وبعد تضحيات نسوية كتبت بالدم الذهبي على جدرانها وأقواسها من أجل حريتها واستقلالها، لم تستطع أن تفهم أن النساء يساوون الرجال في الحقوق والواجبات
ماذا كنت لتفعل لو كنت جزائريًا؟ إنك كنت لتحتار ولتشك ولتتساءل ومن ثم لتقتنع أنه لا إجابة لذلك السؤال العقيم، الذي لا تعرفه أصلًا، وبعد ذلك تغط في نوم عميق وتتحول نقاط الاستفهام من حولك إلى فراشات تحرقها اللامبالاة، فتعطي ظهرك لكل تلك التساؤلات وترمي الجزائر بأسئلتها عرض الحائط، وتواصل حياتك كما لو لم تكن جزائريًا أبدًا. كما لو مسحتها من الخريطة، كما لو أنها بقعة زيت تطفو فوق بحر من الخرافة، كما لو أنها وكما يا ليتها لم تكن أصلًا.
اقرأ/ي أيضًا: خريطة إسرائيل.. عودة حديث التطبيع إلى الجزائر
تتنكر لكل شيء من حولك فيها وكأن الجزائر لم تكن موجودة يوم ولدت، ولن تكون هناك يوم توافيك المنية. وأما بينهما وذلك بيت القصيد فلا وجود لها. كذلك قد تبحث عنها في جيب سروالك أو رتابة هندامك أو في غذائك وشرابك، ولكنك لن تجدها قابعة سوى في خيالك، حيث تبدو الأشياء الخيالية حقيقة كسراب للحقيقة، وكانجلاء للحياة وكعدم وكموت.
في جزائر التناقض التي يستعيرها الجنون لتستبدله الدوام، تبقى الثورة حكاية ترويها الكتب والمجلدات دون أن نستخلص منها العبر، فالجزائر وبعد نصف قرن من استقلالها وبعد تضحيات نسوية كتبت بالدم الذهبي على جدرانها وأقواسها من أجل حريتها واستقلالها، لم تستطع أن تفهم أن النساء يساوون الرجال في الحقوق والواجبات، فهاهي بلادي بعد استقلالها تدشن لمشروع الذكورة الناشف، وترسي قواعد قانون الأسرة الذي جعل من المرأة الجزائرية نصف مواطن أو أقل، وهمشت تاء التأنيث في هذا الوطن. تاء التأنيث التي صنعت من قبل بطولات ثورتها التحريرية. وغدت جميلة بوحريد في لحظة أنانية ذكورية مقيتة نصف مجاهد ونصف ثوري، وكميراث للشهداء كان لحسيبة بن بوعلي نصف حظ لعربي بن مهيدي أو أقل، كما لو كان الرجال وحدهم ثاروا، وكما لو كانت نساء بلادي أقل قيمة من رجالها. وضعت جميع الثوريات في نفس المرتبة وأصبحت جزائر فاطمة نسومر للرجال وحدهم.
في هذا الوطن الشاسع والكبير كجسد وليس كروح، وبالرغم من مساحته الهائلة كعاشر أكبر بلد في الكرة الأرضية، لم يجد مكانًا فيه لأقلياته فحرم بعضهم حقهم في العبادة والبعض الآخر حرمهم حقهم في الوجود، حيث لم يهضم بلدي العزيز حق الاختلاف بين مواطنيه، وعلى الرغم من أن جميع الجزائريين باختلاف توجهاتهم الدينية واللغوية والفكرية والجنسية قد شاركوا في تحريره، وبالرغم من الرقعة الجغرافية الكبيرة التي يحوزها إلا أنه بات ثكنة عسكرية كبيرة على الجميع فيها أن يرتدي لباسًا واحدًا، وأن يدين بدين واحد، وأن يتكلم لغة واحدة، أن يحمل رأيًا واحدًا، فبات وطني متوحدًا في نفسه، ليس توحد الاتحاد بل توحد التوحد.
ومن الغريب والعجيب في جمهورية التناقض هذه أن القانون الذي استطاع أن يتسامح مع ذابحي الأطفال والإرهابيين في التسعينيات بما يسمى المصالحة الوطنية، لم يستطع أن يتسامح مع الكتاب والصحفيين والفنانين فراح يحبس بعضهم لآرائه أو معتقداته أو قناعاته ويقمع الآخر لأفكاره أو كينونته. فاستطاعت الجزائر أن تتصالح في وقت قصير مع إرهابييها وفي نفس الوقت راحت تكشر عن أنيابها ولكتابها ومفكريها في لوحة متناقضة لن يفهمها أحد، مهما حاول فعل ذلك.
فالجزائر التي تنص موادها الدستورية صراحة على حرية المعتقد والدين والضمير وعلى حرية الرأي والمساواة بين المواطنين، وضعت دستورها تحدت أقدامها وراحت تقمع الحرية بعمق الجرح الذي يدميها منذ فترة التسعينيات، فالمفارقة العجيبة أن الجزائر التي كافحت وشنت حربًا لأجل الحرية في ثورتها العظيمة، هاهي تشن اليوم حربًا جديدة ضد الحرية.
الجزائر الجميلة والغنية والتي تمتلك من الثروات الطبيعية الزاخرة ما يتجاوز حدود المعقول، يريد جميع شبابها أن يغادرها بلا رجعة حيث لم توفر لهم سوى البؤس والأحلام الواهية.
الجمهورية الجزائرية المتناقضة المشروع الذي كلفنا خمسين سنة لإنشائه، أكبر مشروع على الساحة الدولية للفلسفة العبثية، حيث يمكنك طرح الأسئلة دون أن تحتاج لإجابة، وحيث الأسئلة ذاتها إجابات عفوية لسؤال أكبر مؤلم بقدر ما هو محير. ماذا تريد الجزائر أن تقول بتناقضها هذا يا ترى؟
اقرأ/ي أيضًا:
الحكومة الجزائرية.. فخاخ الواجهة المزيّفة
ميلة الجزائرية..مملكة الجنان والمياه تبحث عن مجدها