ينتمي كتاب "الفلاسفة والحب" (ترجمة: دينا مندور، دار التنوير2015)، قبل كل شيء، وحتّى يكون مُفتتَح الكلام فلسفيًا، إلى ضرب من الكتابة صار يُنعت بـ "الكتابة بيدين"، حيث ينضوي كاتبان إلى الظلال الوارفة لنصّ واحد. ويأتي في ناصية هذا الضرب الثنائي جيل دولوز وفيليكس غاتاري، إذا أردنا أن يكون المثال فرنسيًا. لكن، بينما تناولت نصوص دولوز وغاتاري إشكاليات في الفلسفة والتحليل النفسي، كتبت ماري لومونييه وأود لانسولان، الصحفيتان في النوفيل أوبسرفاتور، "الفلاسفة والحب"، الذي هو كتاب صحفي في المقام الأول، عن موضوع، لو استعرت من شوبنهاور، لم ينظر له الفلاسفة بعين الاعتبار حتى الآن: الحب.
"الفلاسفة والحب" كتاب صحفي في المقام الأول عن موضوع لم ينظر له الفلاسفة بعين الاعتبار حتى الآن: الحب
لعل هذا الفقر الفلسفي، فيما يتعلق بموضوع الحب، هو السبب الرئيس وراء امتلاء الكتاب بالمعلومات السيرذاتية، ما جعله يستحيل إلى بحث في الحياة العاطفية لمجموعة من الفلاسفة، ممزوج باستنطاق لبعض مقولاتهم، في سبيل بلورة صورة عن الحب في فكر وحياة كل فيلسوف تم الحديث عنه. وربما ينبغي أن أشير هنا إلى أنه ثمة اهتمام في الصحافة الثقافية الفرنسية، ليس له نظير يذكر في ألمانيا، أو إنجلترا، أو الولايات المتحدة، بالحياة العاطفية والجنسية للمنظِّرين والفلاسفة، حيث كثيرًا ما تخصص ملفات صحفية كاملة عن مثل هذه الأمور.
اقرأ/ي أيضًا: ريم غنايم.. الزنوجة بلسانٍ عربيٍ فصيح
يتناول الكتاب (مائتان وأربعة وستون صفحة) الحياة والفكر العاطفيين للفيلسوف اليوناني القديم أفلاطون، والشاعر الإيطالي القديم لوكريس، وأحد أكثر فلاسفة النهضة الفرنسية إلهامًا، مونتاني، وفيلسوف التنوير الجنيفي، جان جاك روسو، وإيمانويل كانط، المثالي الألماني وفيلسوف السلام العالمي، والفيلسوف والمفكر الديني سورين كيركيغارد، وفريدريك نيتشه، فيلسوف المطرقة وعدو المسيح، ومارتن هايدغر، فيلسوف الغابة السوداء و"آخر الرومانسيين"، وحنة أرندت، التي فحصت ودققت في مفهوم الحب عند القديس أوغسطين، والثنائي الفرنسي الأشهر، جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار.
لكنه لم يتناول آخرين، ربما كانوا أكثر إثارة للجدل، من قبيل الفيلسوف الكلبي ديوجين، المولع بالاستمناء، وميشيل فوكو، المؤرخ والفيلسوف المثليّ الصاخب، والدلالي والنقاد الفرنسي رولان بارت، صاحب الميول الغلمانية.
لا يبدو المأخذ النِسْوي، أو أي مأخذ معياري عمومًا، بارزًا في الكتاب، وهو الأمر الذي يجعل المرء يعتقد أن الكتاب قد سُبك بلا غاية أيديولوجية محددة، على عكس الحال في كتاب "أساتذة اليأس: النزعة العدمية في الأدب الأوروبي"، للروائية والناقدة الكندية نانسي هيوستن، التي سعت إلى نقد تصورات بعض الأدباء والفلاسفة، ومنهم من تم تناولهم في "الفلاسفة والحب"، حول المرأة والحب والزواج والأطفال، من منطلق نسوي محافظ. ولا يبدو أيضًا، مقارنة بالكتاب المذكور والقريب جدًا من موضوعه، أنه قد استطاع الموازنة بين البعدين السيري والتنظيري، فغلب البعد الأول بشدّة، في حين جاء الثاني هشًّا ومن على السطح، ما يُخرج القاريء متخمًا بالقصص والحكايات، لكن مع قدر ضئيل من الأفكار المكتملة والواضحة.
مما يجدر ذكره أن الكتاب قد ترفَّع عن بعض مما يمكن أن ندعوه بالكلاشيهات الفلسفية، أو بالتصورات القارة حول تاريخ الفلاسفة. فما تم ذكره حول فردريك نيتشه، كان جيدًا إلى حد كبير: "إن مسألة الأمومة هي المحور الذي تميز به الفيلسوف عن زميله الأكبر شوبنهاور. فمن المعروف أن هذا الأخير كان يودّ لو يقذف الرضيع بماء المرحاض [سوف يكرر الروماني إميل سيوران، لاحقًا، صورًا مشابهة لتلك الصورة في كتابه "مثالب الولادة"]. بينما اشتهر نيتشه بكونه "مفكّر الحَبَل" وفقًا للمصطلح الصادم الذي أطلقه دريدا [في كتابه "المهماز: أساليب نيتشه"].
موقف نيتشه من المرأة التباسيّ إلى حد كبير، وقد أسهم النقد النسوي في تكريسه في هيئة الذكوري كاره النساء
ومع ذلك فالطفولة محتفى بها في أعمله الأدبية. سواء على المستوى الطبيعي لدى المرأة، أو المستوى الروحي لدى المتأملات" (ص. 189). ومن المعلوم أن موقف نيتشه من المرأة التباسي إلى حد كبير، وقد أسهم النقد النسوي في تكريس نيتشه في هيئة الذكوري كاره النساء، وهي الصورة التي عملت على تقويضها، لاحقًا، نسويات أخريات من بينهن فرانسيس ن. أوبل، في كتابها: "نيتشه عن النوع: ما وراء الرجل والمرأة"، ويعدّ عدم انسياق الكاتبتين وراء الادعاءات التي تعمل على تشويه صورة الفيلسوف الألماني مما يحمد لهما.
اقرأ/ي أيضًا: في مكتبة بورخيس
ممّا يميز بعض فصول الكتاب، أو، بالأحرى، الحكايات المنسوجة حول بعض أبطاله، أنها تُرِكت بلا نهايات محددة. فالحياة العاطفية لإمانويل كانط، صاحب الأمر القطعي، على سبيل المثال، تبقى، بعد الخمس عشرة صفحة (عدد الصفحات التي خصصت لكانط)، غير نهائية أو مقطوع بها. فهل عاش ومات كانط في "صحراء الحب"، أم أنه، ذلك التنين الأخلاقي، كان عاشقًا لامرأة متزوجة، وهل مارس الجنس، أم لا، أم هو، كما يروي عن نفسه: "حين كنت أحتاج لامرأة، لم أكن أملك حينها ما أطعمها به، وحين أملك ما أطعمها به، لم أعد أشعر بالحاجة إليها" (ص. 107)؟
ومن حكايات الكتاب التي حبكت على نحو قصصي جيد، تلك التي كانت عن الثنائي الفرنسي الأشهر، سارتر ودو بوفوار: "منذ البداية، وضعا الاتفاق الشهير بينهما الذي يقضي بالحرية الجنسية والعاطفية. واعتبر المشتركون في مجلة لوفيغارو في سنوات الخمسينات بمثابة فضيحة لهم. وكمتعلمة جانبها صواب التعبير، عبّرت دو بوفوار عن ذلك قائلة: "لقد شرح لي أن ما بيننا هو حب ضروري، وقد يكون من المناسب أن نمر بحب عابر". ها قد عرفنا! إذن فهذا الاقتراح جاء من طرف سارتر. وكما قال هو في يوميات الحرب الغريبة: "الرجل العظيم" عليه أن يحافظ على نفسه حرًا" (ص238). كانت هذه هي مسوغات "العقد" الذي عاش عليه الثنائي الفرنسي إلى أن أصبح قبرهما مزارًا للعشاق من كل أنحاء العالم. "إنه اتحاد اختياريّ له توابع متعددة تدور حولها بشكل موسمي. إذن، فقد كان حبها مجزَّأً منذ البداية" (نفسه).
في حادثة قريبة من وقتنا الحالي، ظهرت شائعة عن علاقة ما تربط بين الفيلسوف اليساري السلوفيني، سلافوي جيجك (ستة وستين عامًا)، والمغنية الأمريكية الشهيرة ليدي غاغا (تسعة وعشرين عامًا). بيد أنه سرعان ما خرج جيجك وصرّح للإعلام بالنفي التام لهذه الشائعة، لكنه ندم بعد ذلك على سذاجته المفرطة في عدم استغلال هذا الحدث بما يكفي، وهو الرجل الستيني الذي ظن الناس أن شابة في أوج مجدها وشبابها قد تكون على علاقة به. فهل يعلمنا جيجك، ونظراؤه المذكورون أعلاه، شيئًا عن سذاجة الفلاسفة فيما يتعلق بالحب، والحياة العاطفية، أم عن حجم سوء الحظ الذي يعترض طريقهم؟
اقرأ/ي أيضًا: أورهان باموق.. من مطبخ الكتابة