اليوم، تمر الذكرى الأولى لتنظيم أول جلسة استماع علنية من هيئة الحقيقة والكرامة المُشرفة على تنفيذ مسار العدالة الانتقالية في تونس. ونظمت الهيئة 11 جلسة استماع حتى الآن، شملت أغلب الحقبات التاريخية التي تغطيها مدة عمل الهيئة، والممتدة لقرابة 60 سنة من 1955 إلى 2013. كما شملت أغلب العائلات السياسية والاجتماعية.
تمر اليوم، 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، الذكرى السنوية الأولى لأول جلسة استماع علنية من هيئة الحقيقة والكرامة لضحايا نظام بن علي
وقد كشفت شهادات الاستماع العلنية، النقاب على حجم الانتهاكات لحقوق الإنسان والفساد زمن الاستبداد. ونعرض لكم في هذا التقرير أكثر خمس شهادات لا زالت محفورة في أذهان التونسيين.
1. سامي براهم.. قصّة مواجهة وتحدّي
هي واحدة من أكثر الشهادات المؤثرة في جلسات الاستماع العلنية، شهادة سامي براهم الذي اعتُقل لمدة ثماني سنوات في فترة التسعينيات، قضى عقوبتها بين أكثر من 10 سجون تنكيلًا به، رغم أنه كان طالبًا مستقلّا ولا ينتمي لأي فصيل سياسي.
اقرأ/ي أيضًا: 17 نوفمبر.. تونس تستمع إلى ضحاياها لأول مرة
وقد تحدث سامي براهم، وهو أستاذ باحث في الحضارة ومختصّ في الحركات الإسلامية، عن معاناته وتعذيبه في مراكز الإيقاف والسّجون، وقد تحدث كذلك عن استمراره في دراسته وتحدّيه لنظام الاستبداد الذي عذّبه رغم خضوعه لمراقبة إدارية استمرّت حتى اندلاع الثورة. وقد أعلن خلال شهادته استعداده للعفو عن سجّانيه الذين عذّبوه مقابل اعترافهم بجرائمهم وتقديمهم للاعتذار. ويُذكر أنّ وزارة الداخلية التونسية كانت قد رفضت كافة طلبات "الحقيقة والكرامة" المقدمة من ضحايا النظام السابق، دون تقديم تبريرات!
2. شهادة عماد الطرابلسي.. هل دُفعت لانطلاق "الحرب ضد الفساد"؟
قدّم عماد الطرابلسي، صهر الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ورجل الأعمال واسع النفوذ قبل الثورة، شهادة تاريخية دامت ساعة ونصف حول الفساد زمن الاستبداد، تحدث خلالها عن استغلال سلطة عمّته ليلى بن علي للحصول على صفقات، والمحاباة من أجهزة الدّولة خاصة جهاز الجمارك، الذي يمثل أحد أكبر بؤر الفساد في تونس، إذ كشف تقرير للبنك الدولي سنة 2015، أن الشركات القريبة من نظام بن علي استطاعت التهرب من دفع رسوم جمركية بلغت 1.2 مليار دولار على الأقل في الفترة من 2002 إلى 2009 بسبب التلاعب في بيانات أسعار الواردات.
وقد أحدثت شهادة عماد الطرابلسي، الموقوف على ذمة القضاء منذ الثورة، ضجّة واسعة حول استفحال الفساد. ويعتبر مراقبون أن هذه الشهادة ساهمت في إعلان الحكومة في شهر آيار/مايو الماضي، أي بعد أسبوع من عرض الشهادة، حربها المُعلنة ضدّ الفساد، والتي تم بموجبها إيقاف عشرات رجال الأعمال النافذين على أساس قانون الطوارئ.
3. عائلة المطماطي.. ما تزال تنتظر جثته
قدمت والدة كمال المطماطي وزوجته، شهادة لا زالت محفورة في أذهان التونسيين، إذ طالبت عائلة المعتقل السياسي الذي قتله نظام بن علي بداية التسعينيات، بالحصول على جثته لدفنها، وذلك وسط أنباء عن أن أجهزة النظام قامت برمي الجثة في خرسانة إحدى الجسور في طور البناء حينها.
وتفيد التحقيقات بأن كمال المطماطي الذي كان موظفًا ونشطًا ضمن الحركة الإسلامية المعارضة لنظام بن علي، مات تحت وطأة التعذيب بمحافظة قابس جنوب تونس في تشرين الأول/أكتوبر 1991، ولم يتم إعلام عائلته التي ظلت لسنوات تبحث عن ابنها بين المستشفيات والسجون.
وتحدثت والدة كمال المطماطي بحُرقة عن معاناتها في التنقل بين المحافظات بحثًا عن ابنها الذي كانت تظنّ أنه مختفٍ قسريّا. وعانت العائلة الأمرّين، إذ كان هو عائلها الوحيد، فالسلطات الأمنية ضيقت عليهم وحاصرتهم وشددت عليهم المراقبة، وكلما قام شخص بمساعدة العائلة إلا ونكلت به. كما انقطع أبناؤه عن الدراسة، وأصيب جل افراد العائلة بأمراض نفسية.
4. سالم كردون.. من ضابط في الجيش إلى معذب في الأرض
مثلت قضيّة ما يعرف بـ"برّاكة الساحل" بداية التسعينيات، نقلة في الحياة السياسيّة والحقوقية بتونس، إذ كانت منطلقًا لمرحلة من الانغلاق بعد فترة من الانفراج النسبي عاشتها البلاد إبان انقلاب بن علي سنة 1987. وتتمثّل القضية في إعلان السلطات في أيار/مايو 1991، عن محاولة انقلاب مزعوم اُتّهم فيه عسكريون، تمّ إيقافهم ونزع صفتهم العسكرية قبل سجنهم وتعذيبهم. وقد قدّم الضابط السابق سالم كردون شهادة لخصّت معاناة ضحايا هذه القضية الشهيرة، التي بالكاد يعرفها شباب تونس اليوم.
كشف تقرير للبنك الدولي عن تهرب شركات قريبة من نظام بن علي، من دفع رسوم جمركية بقيمة 1.2 مليار دولار خلال 6 سنوات
وتحدّث سالم كردون عن وقائع إيقافه ونزع بدلته العسكرية التي تمثل شرف الجيش، وتعذيبه على يد أمن الدولة عبر الصعق بالكهرباء والضرب في أماكن حساسة، مما خلّف له آثارًا خطيرة خاصة في جهازه التناسلي، وهو ما جعله غير قادر على الإنجاب. وقد تحدث كذلك عن معاناته في السجون وتعرّضه للمضايقات من أعوان الداخلية، حتى اندلاع الثّورة التي قال إنه "أكبر مستفيد منها"، لأنها أنهت سنين المعاناة والإذلال.
اقرأ/ي أيضًا: مأساة العميد كردون.. لما اُغتيل شرف الجيش التونسي!
وكشفت هذه الشهادة للتونسيين عن حجم القمع الذي مارسه نظام بن علي، واكتشفوا من خلالها أشكال التعذيب ووسائل إذلال المعتقلين وإرهابهم.
5. شهادة إيناس الجفناوي.. حرمان من الدراسة بسبب الحجاب
مثّل منع نظام بن علي لارتداء الحجاب، واحدًا من أكثر الانتهاكات الخصوصية في تونس، وذلك حينما كانت تنتهك دولة الاستبداد حرية اللباس، وهو ما منع عديد التونسيات من الدراسة والعمل لمجرّد ارتدائهنّ للحجاب. وفي هذا الإطار، كشفت شهادة إيناس الجفناوي عن مدى معاناة هؤلاء التونسيات ومضايقات مختلف أجهزة النظام لهنّ.
وتحدثّت إيناس الجفناوي عن منعها من اجتياز الامتحانات، وهو ما حرمها من إكمال دراستها رغم تفوّقها. وكشفت في شهادتها المؤثرة، كيف كانت تتوجه يوميًا للجامعة طيلة فترة الامتحانات وتمكث في الخارج لأنها كانت ممنوعة من الدخول، مما تسبب لها في الإصابة بانهيار عصبي. وقالت إنه تم إيقافها عديد المرات في مراكز الأمن حيث تعرضت للمضايقات والتهديد، وكان الأعوان يخبرونها بأنها محل مراقبة أمنية، وأن لديهم معلومات ضافية عن تحركاتها، وذلك لمجرّد ارتدائها الحجاب.
أين وصل مسار العدالة الانتقالية في تونس؟
جلسات الاستماع العلنية هي إحدى آليات العدالة الانتقالية، حيث تهدف إلى كشف حقيقة الانتهاكات، وإطلاع الرأي العام على حجم هذه الانتهاكات وترسيخ حفظ الذاكرة الوطنية، كما تساهم في ردّ الاعتبار للضحايا.
غير أن هذا النجاح في تنظيم هذه الجلسات لا يكفل نجاح تونس في تنفيذ عدالتها الانتقالية التي لا زالت تلقى صعوبات، خاصة في ظل غياب الإرادة السياسية، وهو ما عكسه مؤخرًا قانون المصالحة الذي يمنح عفوًا للإداريين المتورّطين في الفساد المالي، وذلك إضافة لرفض وزارة الدّاخلية الانخراط في المسار، ومن ذلك رفضها تمكين هيئة الحقيقة والكرامة من الاطلاع على أرشيف البوليس السياسي الذي يمثّل الصندوق الأسود لانتهاكات حقوق الإنسان في تونس.
تواجه العدالة الانتقالية في تونس صعوبات في التفنيذ، خاصة في ظل غياب الإرادة السياسية متمثلًا في قانون المصالحة تحديدًا
ومن المنتظر أن تنهي هيئة الحقيقة والكرامة مهامها منتصف 2018 إن لم تمدّد لنفسها سنة إضافية، حيث ستقدّم في نهاية أعمالها تقريرًا ختاميًا يضمّ أساسًا كشفًا لحقائق الانتهاكات، وقائمة في ضحايا الاستبداد، وبرنامجًا لجبر ضررهم، وذلك بالإضافة لبرنامج لإصلاح مؤسسات الدولة. كما ستقوم بإحالة ملفات لدوائر قضائية متخصّصة لمحاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان والفاسدين، وذلك وسط شكوك في تحقيق مسار العدالة الانتقالية لأهدافه، وتحديدًا المصالحة الوطنية لعديد الأسباب من بينها أساسًا رفض أجهزة الدولة القيام بمهامها المنصوص عليها في قانون العدالة الانتقالية.
اقرأ/ي أيضًا:
المصادقة على قانون المصالحة بتونس.. خطوة للوراء في معركة لم تنته
بعد انتهاكاتها ضدهم.. الداخلية التونسية ترفض التصالح مع من ظلمتهم عقودًا!