هل انقضى عهد الإذاعة المسموعة كمصدر رئيسي للحصول على المعلومات والتسلية؟ وهل حان الوقت لهجر أجهزة الراديو واعتبارها من مخلفات الزمن الماضي؟. لعل هذه هي الحقيقة بالنسبة لكثيرين، بعد أن أصبحت معرفة الأخبار لا تتطلب أكثر من بضع نقرات أثناء تصفح شبكة الإنترنت، أو الضغط على بعض الأزرار من جهاز تحكم عن بعد. ولكن ذلك لا ينفي بقاء جمهور يستمع إلى الراديو، سواء بشكل عارض أو بصفة دورية.
لا يزال الراديو في مصر له متابعين من الجيل الجديد رغم تراجع عددهم
وفي القاهرة، داخل محل قديم لتصليح أجهزة الراديو، يجلس سعيد بيومي ( 64 عامًا) وسط كومة غير متناسقة من الأجهزة العتيقة وأجزائها المتناثرة على الأرضية وفوق رفوف مرتجلة على الجدران، ومن راديو خشبي موضوع على المكتب الوحيد في المحل يأتي صوت محمد عبد الوهاب متغزّلًا في جفن محبوبه.
يتذكر "الصنايعي" المخلص للمهنة أولى ذكرياته مع الراديو في ستينيات القرن الماضي، حين كان يجلس رفقة أصدقاء والده في المقهى الوحيد بشارعهم ينصتون إلى أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب: "كانت حفلة الست في الخميس الأول من كل شهر تجعل الشارع خاليًا، وكنا ننتظر حفلاتها بفارغ الصبر لنحفظ أغنياتها الجديدة. حفظت كل أغنية استمعت لها على الراديو"، يقول ذلك قبل أن ينادي على صبي المقهى المجاور ليعجل بكوب شاي ثقيل قليل السكر.
اقرأ/ي أيضًا: "SNL بالعربي".. كوميديا سياسية في مواجهة الرقابة
لا مفر بالطبع من المقارنة بين العصر الحالي والأيام الماضية حين يتعلق الأمر برجل عجوز تأتيه الفرصة كي يتحسّر على الزمان المنفلت من بين أصابعه، ولا يستطيع الإمساك به أو استنساخه من جديد. يقول عم سعيد: "زمان قبل دخول التلفزيون إلى بيتنا، كانت حياتنا بسيطة، لدينا صندوقًا خشبيًا (الراديو) تخرج منه الأغنيات ونعرف منه أخبار البلد والدنيا، بعكس أيامنا الحالية التي لا تستطيع أن تتابع فيها شيئًا ولا أن تكوّن تاريخًا شخصيًا وذكريات تخصك وحدك مع ما يقدمونه على الشاشات المختلفة والكثيرة".
ربما وفرة المادة المعروضة هي السبب في غربة عم سعيد عن عصر التلفزيون والسماوات المفتوحة، ولكن هذا السبب ذاته تحديدًا هو ما يجعل بعض الشباب ينفضّون من حول الراديو كوسيط إعلامي تقليدي في محاولتهم لتزويد احتمالية أن يلتقوا باهتماماتهم وانحيازاتهم، مثلما تقول هبة عبد الغني (صحفية، 24 عامًا) "كلما زادت كمية المواد الإعلامية المقدمة للجمهور كلما زادت فرصة أن يجد الجمهور ما يهمه. الآن نجد أن عدد القنوات التلفزيونية يفوق عدد محطات الإذاعة بأشواط كثيرة، وأسباب ذلك تعود في الأساس إلى طبيعة الجمهور وتغيّر أنماط اهتماماته وبالتالي تغيّر الوسيلة الإعلامية التي يذهب إليها لكي توفّي احتياجاته المعلوماتية أو الترفيهية".
يتذكر العم سعيد عبر "ألترا صوت" الزمن الجميل للراديو في مصر قبل ظهور التلفزيون
ولكن عبد الغني تشير إلى أنه في السنوات الأخيرة يمكن ملاحظة التغير الذي شهده المشهد الإذاعي المصري، مع إنشاء عدد من الإذاعات الأهلية والحكومية الجديدة التي تطمح لإعادة الجمهور مرة أخرى إلى الراديو، ولكن ذلك "بالطبع ليس كما كان عليه الحال قبل عقود حين كانت الإذاعة هي وسيلة الإعلام والمعلومات والترفيه الأولى للجمهور، خاصة فى رمضان، فالآن اختلف الوضع كثيرًا بعد دخول لاعبين جدد على الساحة الإعلامية يصعب حصرهم، وتأتي السوشيال ميديا في مقدمتهم".
ووفق عبد الغني، من الطبيعي "أن الجمهور الذي كان مُقسمًا بين الإذاعة والتلفزيون فقط، أصبح الآن موزعًا على عدة وسائل إعلامية"، إلا أنها تنهي حديثها إلى "ألترا صوت" قائلة: "بالرغم من كل هذه العوامل، لا يزال للإذاعة بعض من سحرها وبريقها الأول، يمكن الوقوف عليه في حجم التفاعل الذي يتم بين الجمهور ومقدمي البرامج المختلفة من خلال الاتصالات والرسائل الهاتفية أو التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي".
التغير الذي تشير إليه عبد الغني يمكن ملاحظة تأثيره في شريحة من الجيل الشاب الذي أصبح الراديو مكونًا أساسيًا في روتينه اليومي. نبيل رشاد (صيدلي، 26 عامًا)، يقول لـ"ألترا صوت": "منذ بدأت إذاعة "شعبي إف إم" بثها قبل عامين تقريبًا وأنا واحد من مستمعيها المخلصين". ويعلّل رشاد ولعه بالمحطة الإذاعية الناشئة بقوله "حين ظهرت "شعبي إف إم كانت بمثابة دفقة نسيم في هواء راكد، على أثيرها أمكنني الاستماع إلى أغنيات شعبية نادرة لمحمد عبد المطلب والريس حنفي حسن وعدد من المدّاحين، وغيرهم من الفنانين الذين يصعب أن تجد أغنياتهم على المحطات الأخرى"، وعن أكثر الأوقات التي يستمع فيها إلى الراديو يقول رشاد: "غالبًا ما أكون في سيارتي في الطريق إلى العمل أو أثناء العودة إلى البيت، وهنا أيضًا يتيح لي الراديو معرفة أخبار الطقس وحالة السيولة المرورية في الطرق الرئيسية".
جانب مختلف تمامًا يشير إليه كريم فتوح (36 عامًا) في علاقته بالراديو والاستماع إلى الإذاعة إذ يقول: "وُلدت كفيفًا فكان لزامًا عليّ تعويد نفسي على الاستماع إلى الراديو، لأنه بمثابة الوسيلة الإعلامية الوحيدة التي تمكنني من معرفة أخبار العالم من حولي، كما أنه يساعدني في دروس اللغة العربية ودروس حفظ القرآن". ويشير فتوح إلى أهمية الراديو في حياة المكفوفين ودوره في الحدّ من عزلتهم بقوله: "من دون الراديو لم أكن لأعرف عددًا من أهم الكتب التي قرأتها، والتي ساهمت في تكويني بشكل أساسي"، وفي نهاية حديثه يؤكد فتوح على أن "الراديو لن يموت أبدًا، بل سيبقى طويلًا طالما بقيت أسباب وجوده".
في الساعة الخامسة والنصف من مساء يوم 31 آيار/مايو 1934، انطلقت الإذاعة المصرية الرسمية في أول بث لها لتعبر عن توجهها بأول كلمات على أثيرها: "هنا القاهرة... هنا افتتاح الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية الرسمية". ولكن الحقيقة، أن تلك النشأة الصريحة لإعلام الدولة المصرية سبقها عدد من الاجتهادات الأهلية. وبحسب المصادر التاريخية، فإن بدء البث الإذاعي في مصر كان قبل ذلك التاريخ بحوالي 10 أعوام، وكانت عبارة عن إذاعات أهلية نشأت لتعبّر عن الحراك الثقافي والسياسي الذي شهدته مصر في عشرينيات القرن العشرين.
وتزامنًا مع هذا الحراك وفي محاولة لوضعه تحت السيطرة، تم إصدار مرسوم ملكي فى عام 1926 يُلزم باستخراج تراخيص خاصة باستخدام الأجهزة اللاسلكية طبقًا للاتفاقيات الدولية، ومن المحطات الأهلية التي كانت موجودة آنذاك: إذاعة "مصر الجديدة" (عام 1925)، إذاعة "سابو" الأوروبية (عام 1927)، إذاعتي "راديو الأمير فاروق" و"مصر الملكية"(عام 1932) والتي كانت تعبر عن توجهات القصر، ثم انتقلت التجربة للأقاليم، وبدأ عدد من الإذاعات بالإسكندرية البث، وهي: "راديو سكمبري"،"راديو فيولا"، ثم تبعتها إذاعات أخرى مثل: القاهرة، صايغ، الأميرة فوزية، ماجستيك، المحطة الدولية، ونفرا.
في العام 1934 انطلقت الإذاعة المصرية الرسمية في أول بث لها
وتقدم الدراسة التي أعدتها مؤسسة حرية الفكر والتعبير في عام 2012، تحت عنوان "الإذاعة والتلفزيون.. دراسة في إعلام السلطة"، خلفية تاريخية عن نشأة الإذاعة المصرية، والتطور التشريعي للقوانين الحاكمة لمنظومة الإعلام المملوك للدولة المصرية. وتشير الدراسة إلى أنه مع زيادة عدد الإذاعات التي بدأت تأخذ طابعًا مناهضًا للاستعمار، سعى الاحتلال البريطاني إلى إلغاء المرسوم الملكي بقرار في عام 1932، يُلزم أصحاب الإذاعات بوقف البث تمامًا.
وكان تأثير تجربة الإذاعات الأهلية مقنعًا تمامًا للدولة المصرية لضرورة تنظيمه ووضعه تحت مظلتها، وكان هذا إلى حد كبير على توافق مع سلطات الاستعمار البريطاني، وعلى ذلك تم التعاقد مع شركة "ماركوني" البريطانية، التي قامت بإدارة وإنشاء برامج الإذاعة لمدة 10 سنوات، ثم اتفق الطرفان في 1944 على مدّ العقد لخمس سنوات أخرى، إلا أنه في عام 1947 شاب العلاقات المصرية البريطانية توتر بسبب تلكؤ القوات البريطانية في الجلاء عن منطقة السويس، وكنوع من الضغط على الاحتلال، قررت الحكومة المصرية إلغاء العقد المبرم مع الشركة، وانتقلت إدارة الإذاعة إلى مجلس الوزراء وتم "تمصير" الإذاعة المصرية تمامًا، وبذلك رفعت وصاية الاحتلال عن الإعلام الرسمي للدولة المصرية بقدر ما كان متاحًا في ذلك الحين. وصل عدد المحطات الإذاعية التابعة لهيئة الإذاعة المصرية إلى 10 محطات، تبث بالعديد من اللغات كاللغة العربية وللأجانب في مصر كانت تذيع بالإنجليزية والفرنسية والإيطالية.
ثم جاءت حركة الضباط الأحرار في يوليو/تموز 1952 لتضع تطوير الإذاعة والسيطرة عليها على قمة أولوياتها، وهو ما تم ترجمته لاحقًا حين لعبت الإذاعة المصرية دورًا سياسيًا بالغ الأهمية على الصعيد الداخلي بتعبئة الجماهير لمؤازرة القرارات السياسية التى تتخذها قيادة الثورة (تمت إذاعة بيان الثورة من خلال الإذاعة بالأساس). أما الدور الأكثر وضوحًا فقد تمثّل في التأثير الكاسح على مستوى الجماهير العربية الذي خصصت له الإذاعة المصرية إذاعة خاصة هي "صوت العرب"، وكان ذلك بمثابة نقطة الانطلاق لما سُمّي بـ "الإذاعات الموجهة"، التي رفعت شعار "سلام بين الأمم واستقلال كريم للجميع" لتدعم في البداية كفاح الشعوب الأفريقية والعربية ضد الاستعمار ومن بعدها دعم علاقات مصر التاريخية بالشعوب الأفريقية والأوروبية والآسيوية ومنطقة الأمريكتين.
اقرأ/ي أيضًا: الإعلام المصري.. خارطة مشبوهة
لعقود لاحقة، ظلت الدولة المصرية تحاول السير على ذلك النهج الذي يتيح لها السيطرة على كل منافذ الإعلام، وكان من المنطقي أن تتوسع الدولة المصرية في نشاطها الإعلامي لتواكب تطور "ماكينة" الإعلام كوسيلة للدعاية السياسية وتوحيد العقل الجمعي للدولة، ليتم بذلك استحداث البث التلفزيوني ليدعم مهمة الإذاعات القائمة ويوسع من انتشار رسالتها.
وبغض النظر عن عدد قليل من المحطات الإذاعية الأهلية الجديدة التي ظهرت بعد ثورة 25 يناير، فإن القوانين المعمول بها في مجال الترخيص للبث الإذاعي لا تزال تحدّ كثيرًا من فرصة ظهور محطة إذاعية معارضة أو تخالف توجهات النظام القائم. وبالنظر إلى قائمة المحطات الإذاعية المصرية ومطالعة برامجها، يُلاحظ المستمع غيابًا تامًا للبرامج السياسية الجادة، إلا في حالات نادرة يسمح بها النظام كما في حالة البرنامج الذي يقدمه الصحفي إبراهيم عيسى على إذاعة نجوم إف إم. ويشير خبراء إعلاميون إلى أن برنامج عيسي على الإذاعة لا يعدو كونه "حركة تمويه" من النظام المصري لكي يقول إنه يسمح بمعارضته ويحافظ على حرية التعبير، وهذه الاستراتيجية معتمدة لدى كل النظم الاستبدادية تقريبًا التي تخاطب المجتمع الدولي وتحرص على تصدير صورة مزيّفة لواقع البلاد وحقيقة التضييق والتقييد الحاصل في ملف الحريات.
اقرأ/ي أيضًا: