مرت الاحتجاجات في السودان منذ قيامها في كانون الأول/ديسمبر العام الماضي بمنحنيات عسيرة من قتلٍ وتعذيب واعتقالات إلى أن وصل الحراك إلى إسقاط رأس النظام في نيسان/أبريل هذا العام، من ثم جاءت مرحلة جديدة وهي التفاوض لإدارة المرحلة الانتقالية ما بين قوى الحرية والتغيير الممّثلة لقوى الثورة والمجلس العسكري الانتقالي، وهي مرحلة لم تخل أيضًا من غياهب العنف، من أبرزها فض اعتصام القيادة العامة للجيش بالقوة الذي زهقت فيه أرواح سودانية وأخرى مفقودة لم يتم العثور عليها إلى اليوم. ثم توالت وتيرة المحتجين الذين يحلمون بحكم مدني يحقق لهم العدالة الاجتماعية ويوفر لهم وضع اقتصادي جيد في بلد غني بموارده وفقير في إدارته، نتيجة لتشبث العسكر في السلطة (الانقلابات العسكرية). ووصل الحراك السياسي السوداني إلى الاتفاق السياسي لإدارة المرحلة الانتقالية والتوقيع عليها في 17 آب/أغسطس التي تستمر 39 شهرًا تتلوها مرحلة انتقال ديمقراطي عبر الانتخاب.
برز خطاب الهامش في الفضاء الاحتجاجي السوداني مع المواكب التي كان يعلن عنها لإسقاط النظام، وظهور مواكب للمظاهرات وأجسام موازية باسم "تجمع الهامش" على الفضاء الافتراضي والواقعي، واستمرت مع توقيع الوثيقة الدستورية
من البديهي جدًا أن كل حراك سواءً كان سياسيًا، اجتماعيًا، اقتصاديًا أو غيره يصاحبه حراك في مجالاتٍ أخرى نتيجة لتداخل الأنساق الاجتماعية للمجتمعات وتداخل بُناها، وعليه فإن الحراك السياسي السوداني منذ اندلاعه ومروره بالمراحل سالفة الذكر صاحبه حراك في المجالات الأخرى الفنية والفكرية والإبداعية. ونبشَ الحراك في السودان أحداث الماضي والطغيان الغابرة التي تجلت في ظهور خطابات ومطالب سياسية واجتماعية وحقوقية من ضمنها "خطاب الهامش" الذي رُبط في ذهنية الفرد السوداني بجغرافية معينة، أي بمناطق جهوية بعينها في السودان؛ تلك التي عانت من الحروب والفقر بالرغم من عدم وجود معايير واضحة تحدد من هو "المُهمش" في بلدٍ يعاني أغلبية قاطنوه من الفقر والحروب والهجرة.
اقرأ/ي أيضًا: المجال العام للحراك السياسي في السودان.. مُقاربة نَقدِية
برز هذا الخطاب في الفضاء الاحتجاجي بصورة جلية مع المواكب التي كان يعلن عنها لإسقاط النظام، وظهور مواكب للمظاهرات وأجسام موازية باسم "تجمع الهامش" على الفضاء الافتراضي والواقعي مثل "خيمة تجمع الهامش" و"منتدى أبناء الهامش" في مقر اعتصام القيادة العامة للجيش وظهور ناشطين وسياسيين جُدد على الساحة السودانية، واشتدت وتيرة هذا الخطاب طول فترة الاحتجاجات وظهرت مطالب بعينها لتلك المناطق المهمشة أي أقاليم السودان التي عانت من الحروب والتهميش (ضحايا الحروب والانتهاكات)، ولها مواقفها الواضحة إزاء الحراك منذ بدايته.
عند ظهور الوثيقة الدستورية للمرحلة الانتقالية والتوقيع عليها في آب/أغسطس، رفضَت التوقيع والاعتراف بها أغلبية ساكني تلك المناطق وساستها المعارضين الذين يعدون أنفسهم من "الهامش"، وهم متمثلون في إقليم دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، والحُجة على ذلك بأن الوثيقة لا تخدم "إنسان الهامش"، ولم تقدم من ارتكب جُرمًا في حقه للعدالة، ولم تلامس قضايا الحرب والسلام، وبأنها حراسة للامتيازات المركزية التاريخية وتخدم "إنسان المركز" فقط، وتعمل على إنتاج نظام استبدادي شبيه للسابق بميكانيزمات جديدة.
من أبرز الرافضين للاتفاقية كانت "الجبهة الثورية" المكونة من الحركات المسلحة، ثلاثة منها في دارفور وحركتان في جنوب السودان الجديد، ونشأت هذه الجبهة نتيجة لإخفاقات وتراكمات تاريخية في السياسة السودانية وصراع النخب حول الموارد والسلطة، وتتكون أغلبية الجبهة من أبناء تلك المناطق الذين تمردوا على نظام البشير السابق لتهميشه لتلك المناطق وغياب العدالة والتنمية والخدمات فيها، كما يدعون في خطاباتهم ومواثيقهم. هذا الخطاب عاد بقوة في المجال السياسي في الفترة الأخيرة، وأطرت الطرق المعرفية للرأي العام المتعددة والمتنوعة والكاسرة للقبضة الأمنية مثل المجال الافتراضي (Social media) بمواقعه المتعددة من صحف ومجلات إلكترونية...الخ، لهذا الخطاب ولنقل أخباره، ووجد أيضًا رُواجًا كثيفًا في فترة الثورة السودانية، وكانت مطالبه موضوعية على نظام البشير والدولة العميقة التي أجحفت في حق تلك الأقاليم وحاولت تشويه صورة ومطالب تلك الحركات المقاومة عبر وسائل الإعلام المملوكة للدولة، ووصفت الحركات وقادتها بعبارات "نقيصة" وبالعمالة للخارج، و بــ"اليسارية العلمانية"، وبأنها تريد أن تجر البلاد إلى العنف والهلاك، مما أنتج التشظي والفجوة بين الحركات المسلحة والنظام الحاكم السابق وأنتج ما يعرف بــوضعية "التمركُز والتهميش"، وجعل ممثلي تلك المناطق المعارضين (الحركات المسلحة) يضعون شروطًا للتفاوض والاتفاق السياسي وسقف مطالب غير قابلة للتنازل، وهي تندرج تحت مقولة "إما المحاسبة أو استمرار التمرد"، أي تقديم بقايا النظام السابق للعدالة ومحكمة العدل الدولية (لاهاي) وعلى رأسهم الرئيس المخلوع عمر البشير.
اقرأ/ي أيضًا: جداريات الثورة السودانية.. الخرطوم تحتفي بشهدائها
بعد الخلاف بين قوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية بذلت جهود دولية وإقليمية برعاية من الاتحاد الأفريقي وعدد من رؤساء بعض الدول لتقريب وجهات النظر لكن باءت بالفشل، وظل موقف هذه القوى ثابت بالرغم من الاختلاف في توجهاتها الداخلية.
صاحب الحراك السياسي السوداني منذ اندلاعه حراك في المجالات الأخرى الفنية والفكرية والإبداعية، ونبشَ الحراك في السودان أحداث الماضي والطغيان الغابرة التي تجلت في ظهور خطابات ومطالب سياسية واجتماعية وحقوقية
عدم ضم هذه القوى السياسية للاتفاق السياسي وجعل مطالبها معلقة تجعل المرحلة الانتقالية في السودان تعيش على صفيح ساخن وتحت أي لحظة يمكن أن ترجع إلى المربع الأول وهو الحروب والصراعات المناطقية العبثية وتكوين المليشيات التي لم تخل يومًا منها ذاكرة الدولة السودانية، في بلدٍ يعيش في وضع اقتصادي مترهل لا يستحمل مثقال ذرة من الإنفاق على هذه الحروب التي أنهكت كاهله. والمعضلة الأخرى أن بقايا النظام السابق ما زالوا موجودين إلى اليوم، ولم تفكك الدولة العميقة بعد مما يجعلها تبحث عن الثغرات واغتنام الفرصة عبر الخلافات السياسية التي تعطي الشرعية للجيش ومجلسه العسكري للحكم ولحماية أفرادها وتمرير أجندتهم. والسؤال الذي يدور في هذا السياق كيف يتم التعامل مع هذه القوى غير الموقعة على الاتفاق السياسي؟ وما هو مستقبلها؟
اقرأ/ي أيضًا:
الجنود السودانيون في اليمن.. ضحايا صفقة المجلس العسكري مع الرياض