أصعب خطوة هي الخطوة الأولى، وأصعب الشعر أوله، وأصعب الكتب بواكيرها. هذه حكمة عامة تجود بها الحياة على أبنائها. كثيرون يقفون عند العتبة الأولى متهيّبين لا يدرون هل من الصواب المضيّ نحو الأمام أم أنه ما زال هناك متسع من الوقت لننتظر. قليلون فقط من ينتظرون وكثيرون من يغامرون بالخطو والقفزة الأولى.
من هؤلاء المغامرين كانت الشاعرة نائلة أبو طاحون في ديوانها الأول "على ضفاف الأيام" (مكتبة كل شيء، حيفا 2020)، وبعيدًا عما قاله مقدّم الديوان علي أبو عميرة عن تأخر صدور هذه المجموعة الشعرية بناء على نشاط الشاعرة "وحضورها المميز في المهرجانات والندوات ومن خلال كتاباتها الأدبية" (1)، فإن الديوان وقصائده تقدّم نفسها، ليجد فيها القارئ شيئًا مختلفًا عما قاله أبو عميرة، إذ حاول أبو عميرة أن يقدم المجموعة بمقدمة قصيرة جنحت نحو العموم دون أن تمنح الشاعرة أو المجموعة شيئًا خاصًا. وبعيدًا عن هذه المقدمة أيضًا فلا أريد مناقشتها، مع أنني لا أحب المقدمات، وإن فعلتها أنا أيضًا كاتبًا ومكتوبًا لي. ولكن المقدمات في أغلبها إن لم أقل كلها، هي حاجز بين القارئ والنص، وليست جسرًا للعبور كما يتوهم الآخرون. فالنصوص الجيدة نصوص تعلن عن ولادتها وحضورها دون وسائط تحملها إلى المتلقين.
المقدمات حاجز بين القارئ والنص، وليست جسرًا للعبور كما يتوهم الآخرون
إصدار ديوان شعر مغامرة كبيرة. هكذا يفكر الشعراء، ويقفون عند ذلك متأملين. قد تُنتِج نصًا أو نصين جيدين، وربما عشرة، ولكن هل يسوّغ لك ذلك أن تصدر ديوان شعر. ناقشت هذه المسألة في كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية" عندما طرحت سؤال: "هل تفكر بإصدار ديوان شعر؟" (2). ثمة عقبات كثيرة. عقبات في النشر مع أن الشاعرة محظوظة في هذا الجانب، إذ وجدت فرصة للنشر في "مكتبة كل شيء" ما يتيح لها الانتشار أيضًا تبعًا لنشاط الدار وتعاملاتها في مجال التسويق والمشاركة في المعارض والتوزيع. هذا جانب مهم من الجوانب التي يجب أن يفكر فيها صاحب العمل وناشره سويّة حتى لا يكون مصير المجموعة التكديس في المخازن، وتصبح عبئًا على الناشر ومكتبات البيع.
اقرأ/ي أيضًا: مكتبة نور عسلية
تلك العقبة الأولى ليست فقط هي العقبة الكأداء التي يجب أن يتخطاها الشاعر حاليا، ونحن نشهد "الفيضان الروائي" كتابة ونشرًا وانتشارًا، وإنما هناك عقبة أخرى أشد خطرًا وهي البحث عن الصوت الخاص للشاعر، لغة خاصة مقدودة من جسد اللغة الأم، لغة ذات دهشة ونشوة تجعل القارئ لا يفكر باللغة المعجمية ولا باللغة المحفوظة في ذهنه، ولا تقفز بين النصوص الصيغ الجاهزة. لغة التجربة الخاصة النابتة من عصب الشاعر الحي؛ حيث تقلّب في مصائر عدة، وعارك مصاعب جمّة، وواجه مشاقّة مختلفة. إن كل ذلك هو ما يخلق اللغة المنحوتة من معجم الشاعر الخاص ليكتب بلغته وبأسلوبه وبنبض قلبه وبحرارة دمه وبإيقاع أنفاسه وهو يعاند الحياة وتعانده. هذه أخطر عقبات الشعر. فهل أفلحت الشاعرة في تخطي هذه العقبة كما تخطت العقبة الأولى؟
لعل أفدح الأشياء خطأً هي التعاريف التي تسطّح تلك الأشياء الغامضة. لذلك لا يحسن تعريف الشعر، ولا يصحّ تعريفه، وكل ما قيل في ذلك محض وصف خارجي لا يكشف عن الحقيقة. لماذا أبدو مقحمًا هذا في الحديث عن الشاعرة نائلة أبو طاحون وديوانها؟ هل يكتفي المتلقي بتعريف الشعر المتداول "كلام موزون مقفى له معنى"، ليطمئن على سلامة التجربة وانتسابها للشعر؟ ربما هذه شروط الشعر الأولى أن يكون موزونًا ومقفى وله معنى. ولذلك فإن ديوان "على ضفاف الأيام" هو شعر تحقّقت فيه العناصر الثلاثة السالفة الذكر. ولكن هل يصحّ أن يكتفي الشاعر بذلك؟ إذ لو اكتفى الشاعر، أي شاعر، بذلك لم نجد أولئك الشعراء المميزين الذين اصطبغ شعرهم بمياسم جمالية خاصة بهم، لقد خلقوا لغة جديدة، مدهشة، هذه هي مهمة الشاعر الحقيقية، فأهم ما يميز الشعر هو تلك الانزياحات التي تبعد القارئ عن المألوف إلى عوالم أخرى من الدهشة الجمالية، وتنزع عن الشاعر صفة الناظم، وتدخله في سياق الشعرية والإبداع.
لا شك في أن خطوة أبو طاحون كانت خطوة مهمة لتعرف حدود لغتها، إلى أين تتجه، وما هو منسوبها الثقافي، وما هي مصادرها المعرفية التي شكّلت هذه المدونة الشعرية، من أجل أن تخطو الخطوة التالية على هدي من الخطوة الأولى. فما هي معالم لغة الشاعرة في هذا الديوان؟
من اللافت للنظر أن قصائد الديوان في المجمل قصائد تدريب على الشعر ونظمه، لتحقيق الشروط الأولى التي أشرت إليها آنفًا، فقد سلم الشعر بالمجمل من الهِنات اللغوية والعروضية إلا ما ندر، وأغلب الظن أنه وقع سهوًا، وحافظت الشاعرة على القوالب الكلاسيكية للشعر العربي بشكليه؛ شعر الشطرين، والشعر الحر، وجاءت القصائد قصيرة، مقسومة إلى تدريبين: خصصت الفصل الأول للتدريب على القصيدة الخليلية، في حين جاء القسم الثاني تدريبًا على قصيدة الشعر الحر، على الرغم من أن تلك القصائد لم تتكئ على تقنيات الشعر الحر سوى عدم التزامها بالعدد الرتيب للتفعيلات، مع بقاء القافية حاضرة، كأن الشاعرة خرجت إلى تلك المنطقة الوسطى ما بين الشعر الخليلي وما بين الشعر الحر، منحازة بوعي أو دون وعي إلى ما فهمته الشاعرة نازك الملائكة في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" للشعر الحر من أنه "ظاهرة عروضية قبل كل شيء" (3). ما يعني فقط التحرر من نظام القصيدة القديمة ذات الشطرين. هذا الفهم القاصر البسيط للشعر الحر يراه القارئ بوضح في قصائد المجموعة الثانية من الديوان، وهو مغاير بكل تأكيد للشعر الحر، وما خطته قصيدته عند شعراء كبار كالسياب ومحمود درويش وأمل دنقل، وغيرهم من الشعراء الذين جاءوا بعد نازك الملائكة.
لقد ظلت قصائد "على ضفاف الأيام" سابحة في تقليدية النموذج العربي، ليس شكلًا خارجيًا للقصيدة بشكليها وحسب، بل في التراكيب والعبارات، فتجد لغة شعراء إسلاميين وأمويين وعباسيين، كما تجد صوت شعراء الكلاسيكية الجديدة في العصر الحديث مجاورة أصوات العهد الرومانسي في بداية النهضة الشعرية الحديثة، إلى خليط من أصوات شعرية شتى من مدارس فنية متباينة، يدل على قراءات الشاعرة ومحفوظها من الشعر واطلاعها، ولكنها لم تستطع الخلاص من تلك اللغات وذلك المحفوظ وتلك التراكيب فاحتلت لغتها وصادرت صوتها الخاص، وسلبتها الكيميائية التي يجب أن تجدها في لغة الشاعرة.
ظلت قصائد "على ضفاف الأيام" سابحة في تقليدية النموذج العربي، ليس شكلًا خارجيًا للقصيدة بشكليها وحسب، بل في التراكيب والعبارات
لعل هذا يعيدنا إلى تلك القاعدة الذهبية في قول الشعر المستلّة من هذه القصة بين خلف الأحمر وبين أبي نواس: "استأذن أبو نواس خلفًا الأحمر في نظم الشعر، فقال له: لا آذن لك في عمل الشعر إلا أن تحفظ ألف مقطوع للعرب ما بين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة. فغاب عنه مدة وحضر إليه، فقال له: قد حفظتُها. فقال له خلف الأحمر: أَنشِدْها. فأنشده أكثرها في عدة أيام. ثم سأله أن يأذن له في نظم الشعر، فقال له: لا آذن لك إلا أن تنسى هذه الألف أرجوزة كأنك لم تحفظها" (4)، ما يعتني به الشاعر، إذًا، أن ينسى ما حفظ حتى يتخلص من سيطرة أشعار هؤلاء الشعراء عليه لغة وصورة وتراكيب.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا يجب أن يصمت الكاتب؟
إن ما وقعت فيه الشاعرة أمر طبيعي، ولازم، ولا بد من أن يكون، وكل الشعراء عانوا منه والتفتوا له، فكانوا جرئيين في مصارحة أنفسهم بذلك، فمحمود درويش حذف من مسيرته الشعرية ديوانه الأول الذي أنتجه عام 1960 "عصافير بلا أجنحة"، لأنه كما يقول كان متأثرًا فيه بشعراء آخرين. إن ما يهمّ الشاعر هو أن يجد لذته الشعرية الخاصة بصوته الخاص، لا أن يكون شاعرا صدى لآخرين. وهذه قضية فنية مختلفة عما عرف من ظاهرة التناص بأنواعه. قضية أرقت الشاعر القديم كما أرقت الشاعر الحديث، وكل شاعر يريد أن يصبح شاعرًا ذا بصمة مميزة ومائزة لا بد له من السعي نحو هذا الهدف، على الشاعرة أن تفكر بأن تكون "الطائر المحكيّ"، وليس "الآخر الصدى" (5).
مع كل ذلك يبدو ديوان الشاعرة نائلة أبو طاحون خطوة لازمة، ولكنها خطوة يجب أن تنسى، ويجب أن تظل ضمن تدريبات الشاعرة على قول الشعر، لتستطيع الانتقال إلى مغامرة ناضجة؛ يكون فيها البحث عن لغة خاصة مقدودة من تجربتها الخاصة التي تؤشر نحوها وتنتمي إليها، سواء في الصورة الشعرية أو التراكيب أو الإيقاع العام للقصائد، فثمة أشياء أولى من الوزن والقافية؛ فذانك العنصران الشكليان اللذان لم يعد يحفل بهما كثيرا شعراءُ الحداثة وما بعد الحداثة، ولا يعني هذا البتة الدعوة إلى التخلي عن الوزن والقافية، ولكن يجب الالتفات إلى عناصر أخرى أكثر أهمية في تشكيل القصيدة الحديثة وبنائها.
هوامش
1- الديوان، ص 6
2- يُنظر الكتاب، روافد للنشر التوزيع، 2020، ص 338-342
3- يُنظر الكتاب، منشورات مكتبة النهضة، ط 3، 1967، ص 53.
4- أخبار أبي نواس، ابن منظور، القاهرة، 1924، ص 266-267.
5- هذان تعبيران للشاعر أبي الطيب المتنبي وردا في بيته الذي يمدح فيه شعره: "ودع كل صوت غير صوتي فإنني// أنا الطائر المحكي والآخر الصدى". الديوان، شرح عبد الرحمن البرقوقي، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1995، ج 1، ص 309.
اقرأ/ي أيضًا: