اتّخذ رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فيّاض من الييشوف الإسرائيلي/المجتمع الصهيوني في فلسطين ما قبل الـ1948، نموذجًا يحتذي به لإقامة دعائم الدولة الفلسطينيّة الموعودة، الدولة التي هي على حدود الرابع من حزيران 1967، والتي ينقضّ الاستيطان الإسرائيلي كلّ يوم لينهش ما تبقّى منها.
منفى الفلسطينيين شتات وفقط شتات، وغيابهم عن أرضهم هو غياب قسري فرضته آلة الاستعمار
بحسب فيّاض، فإنّ مؤسّسات الدولة العبرية، كانت سابقة على الدولة، وهي التي أرست الدعائم الأساسيّة التي جعلت إقامتها أمرًا يسيرًا، وهذا ما يتعيّن على الفلسطينيّين القيام به تمامًا حتى تقوم قائمة دولتهم المرتقبة، وهذا أيضًا ما سيبهر المموّل الأجنبي ويحثّه على أن يكون سخيًّا أكثر وأكثر. ضرب العصفورين بحجرٍ واحد كان كلّ مرماه ومراده.
هذه المقارنة التي ساقها فيّاض تحمل مغالطة واضحة، وتدخلنا في سياق الاستشراق ووله المستعمَر في المستعمِر، وتقودنا للحديث عن التنميّة في ظلّ الاحتلال، والقاموس الذي يحوّل الشتات إلى اغتراب، والمنفى إلى مهجر. فمن حيث المبدأ، لا يمكن التعامل مع التهجير القسري الذي تعرّض له الفلسطينيّون في نكبة الـ1948 كأنه نوع من أنواع الغربة وحالات الهجرة الطبيعية التي ازدادت بعد الحرب العالمية الثانية. فقد كان تهجير الفلسطينيين عملية اقتلاع واسعة وأداة حاسمة لتحقيق المشروع الاستعماري الاستيطاني. كما لا يمكن قياس منفى الفلسطينيين بمخيال المهجر اللبناني مثلًا؛ أبواب لبنان مفتوحة دومًا للمغتربين، أمّا منفى الفلسطينيين فهو شتات وفقط شتات، وغيابهم عن أرضهم هو غياب قسري فرضته آلة الاستعمار.
وبالعودة إلى مقارنة فيّاض، فهو لم يكتفِ بمقارنة نفسه كمستعمَر مع الاستعمار، بل اعتمد عليه كدليلٍ يتتبعه للوصول للتنمية المنشودة. لقد تجاهل فيّاض أن أسس المقارنة مختلّة وغير ممكنة لا في الماضي ولا في الحاضر، فالييشوف الصهيوني منذ الهجرة الثانية في العام 1904 بدأ بإقامة مؤسّسات الدولة الاقتصادية بالتدريج، وعمل على عبرنة العمل، بمعنى الاستغناء عن العمال الفلسطينيين، وكان قد قطع شوطًا كبيرًا في الاستقلال عن الاقتصاد الفلسطيني مستفيدًا من الامتيازات التي منحها له الانتداب البريطاني، أي أنه كان يملك بطريقة أو بأخرى قدرًا لا يستهان من الحكم الذاتي.
لقد فات فيّاض، أو لم يفته، أنّ دولة الـ67 وسلطتها لا تملك أدنى قدرٍ من السيطرة على الحدود، وأنها غير مستقلّة لا سياسيًا ولا مدنيًا ولا اقتصاديًا عن الاحتلال الإسرائيلي. فهي مرتبطة بنيويًا بالاقتصاد الإسرائيلي باتفاقيّة باريس الاقتصادية. إذ كيف يمكن الحديث عن تنمية اقتصادية دون السيطرة على حدود الدولة، ودون معرفتها أصلًا؟ وكيف يمكن لدولة تخسر أكثر من 400 مليون شيكل سنويًّا، لأنها محكومة باتفاقيّة مع مستعمِرها، أن تؤسّس للاستقلال عنه؟ عندما تحوّل اقتصاد الييشوف واقتصاد إسرائيل من النموذج الاشتراكي إلى النموذج الرأسمالي وإلى اقتصاد السوق المفتوح، كان المجتمع الاستعماري هو سيّد نفسه؛ السؤال هو، وإجابته معروفة بالأساس، هل يملك الاقتصاد الفلسطيني، قبل التنمية، إذا سلّمنا أنها حدثت فعلًا، وخلالها وبعدها، أن يختار التحوّل من نموذج إلى نموذج بذات القدر من المرونة والاستقلالية كما فعل الاقتصاد الاستعماري؟
اقرأ/ي أيضًا: التعليم المهني بغزة.. بوابة فرص
التنميّة وأبعادها الثقافية والاجتماعية والوطنية
التحوّل في المعنى والمصطلح هو وليد أوسلو وحلّ الدولتين بطبيعة الحال، وهو وليد التغيّر الذي طرأ على المشروع الفلسطيني من مشروع وطني إلى مشروع دولة، وهو أيضًا نتاج السّياسات الرأسمالية والسوق المفتوح التي دعّمها فيّاض. ففلسطين دولة ناشئة تحتاج إلى كل ما يمكن أن يجعل من اقتصادها الوطني مستقلّ، ومشاريعها الكبيرة والصغيرة بحاجة إلى خبرات المموّل الأجنبي، ناهيك عن سخائه ورحمته. وهذه العلاقة النفعية البحتة، والمنوطة بالمشروع السياسي وحدوده طبعًا، تطال أيضًا فلسطينيي الشتات، المدعوين وفقًا لمصطلحات التنمية الاقتصادية بفلسطينيي الاغتراب.
هل هذه هي فقط حدود علاقتنا مع فلسطينيي الشتات؟ حقّ العودة حقّ مقدّس (بالرغم من أن المقدّس أصبح يحيلنا لا شعوريًّا إلى التنسيق الأمني) وهو حقّ فردي غير قابل للتصرّف، ونفهم أن فلسطينيّي سوريا ليسوا كفلسطينيّي لبنان، وفلسطينيّي هذين البلدين ليسوا كفلسطينيّي الولايات المتّحدة، ونفهم أن بعض اللاجئين قد وجدوا منفاهم وشتاتهم وطنًا، ونحن هنا لسنا في صدد إصدار حكم أخلاقي على أيٍّ منهم، لكنّ ما لا نستطيع أن نفهمه هو تحوّل العلاقة معهم إلى علاقة نفعية فقط، نستفيد فيها من خبراتهم الاقتصادية والإدارية في دعم مشاريع مشابهة في ما تبقّى من دولة الـ67 المتشظيّة. وإننّا وإن رفضنا أن تكون علاقتنا مع فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948 علاقة نفعية سياسية، نرفض أن تتحوّل علاقتنا مع الشتات إلى علاقة اقتصادية، نرفض أن يستحيل المخيّم، أبو الشتات، من بابٍ للعودة إلى بابٍ للتنمية.
تصادر هذه العلاقة العلاقة الروحيّة مع الوطن، وتحوّله إلى فمٍ جائعٍ مفتوحٍ إلى الأموال، وتحيل الذاكرة الفلسطينية إلى ثوبٍ وأكلة شعبية وكنافة تؤكل في محلٍّ شعبيّ هنا أو هناك. وتحوّل العودة إلى حقٍّ منوطٍ بتحقيق هذه التنمية الاقتصادية، والأنكى أنها تصادر فلسطين الماضي من ذاكرتنا الجمعية، لتحوّلها إلى مكان يستجدي المعنى ولا يجده.
اقرأ/ي أيضًا: