"Plata O Plomo"، عبارة لها صداها عند متابعي مسلسل ناركوس (Narcos) الشهير الذي يحكي سِيَرَ كارتلات تجارة المخدرات في أمريكا اللاتينية. وهي عبارة نابعة من عمق حبكة العمل الدرامي، ترجمتها الحرفية تفيد التخيير على بابلو إميليو إسكوبار، بين الفضة أو الرصاص، بين العيش أو الموت.
في حين تشهد معدلات مقتل الصحفيين حول العالم انخفاضًا، يزداد أعداد الضحايا منهم في المكسيك بسبب التشابك بين السياسة والمخدرات
لوهلة يفضي إطلاقها من بين شفاه الممثل، القابع بين ثلة من عساكر، تحديًا ملحميًا للسلطة، وشجاعة تنسجها درامية المشهد، ترافق البطل طوال رحلة حياته عبر الشريط المصور، وكأن المخرج ينصب فخًا للمشاهد، قائلًا: "انظر كم هو عظيم، أسطوري وخارق للعادة!".
اقرأ/ي أيضًا: اغتيالات وخطف وتجسس.. عالمٌ ضد الصحفيين!
يدفع التفكير فيها قليلًا إلى التساؤل: أوَصَلت عصابات المخدرات بذلك الجزء من العالم إلى ذلك الحد من التجبر؟ بيد أن المرعب أكثر، كون هذا القانون هو المحدد الوحيد لممارسة الصحافة في المكسيك، أي أن تصمت أو تموت.
القصة باختصار
في شهر آذار/مارس 2017، تعرضت ميروسلافا بريتش، الصحفية المكسيكية المختصة في حرب كارتلات المخدرات، إلى إطلاق نار وهي تغادر بيتها في مدينة شنيباس ولاية شيواوا غرب البلاد، لتلفظ أنفاسها الأخيرة في سيارة الإسعاف، بعد أن استقرت ثمان رصاصات في جسدها.
بعدها بشهرين، سيلقى خافيير فالديس كارديناس نفس مصير زميلته، وهو مؤسس صحيفة "ريودوسي" المتخصصة في تغطية أخبار الجريمة المنظمة في الميكسيك، حيث سيُردى قتيلًا بالرصاص، ظهيرة 15 أيار/مايو من نفس العام.
ورغم أن محاضر التحقيقات أشارت إلى أن منفذ هذه العمليات مجهول، إلا أن كل أصابع الاتهام موجهة إلى جهة واحدة هي "لوس سالازار".
ولوس سالازار هو أحد الكارتيلات الأكثر نفوذًا بولاية سونورا الواقعة جنوب المكسيك، والذي يديره كل من آدان سالازار و قريبه خوان ميغيل سالازار.
تحقيقات ميروسلافا كانت كلها تدور حول الصراع بين مهربي المخدرات والعلاقة التي تنسجها هذه التجارة بالسياسة في منطقة شمال الغرب المكسيكي، ولم تقتصر أعمال ميروسلافا على فضح هذه الوقائع بل تطرقت حتى إلى فضح أثر هذا الوجود الإجرامي على سكان معبر سينالوا سونورا خواريز، وهو المعبر الرئيسي لتهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
الكوكايين والمال والسياسة والرصاص
يعود المقال الذي لقيت ميروسلافا بريتش حتفها من خلاله إلى سنة 2016، والذي عنونته بـ"مهربو المخدرات مرشحون لرئاسة البلدية في شيواوا". نقلت فيه معلومات سرية وخطيرة جدًا، حول ترشيح وجوه من العصابات الإجرامية للانتخابات المحلية بولايتها، وأبرز هذه الوجوه هو زعيم كارتل لوس سالازار، خوان ميكيل سالازار، مترشحًا عن الحزب الدستوري الثوري لبلدية شينيباس.
تسبب هذا المقال في العداء ضد الصحفية المكسيكية من قبل السياسيين من جهة والعصابات من جهة أخرى، بكشفه العلاقة الخفية بين الفئتين، وشكل ذات المقال ضغطًا على الحزب لتغيير مرشحه.
لكن القصة لن تقف عند هذا الحد وقتها، بل ستتلقى ميروسلافا اتصالًا هاتفيًا، يزعم فيه المتكلم أنه عضو من الحزب المذكور، يستفسرها فيه عن مصدر معلوماتها، مبطنًا كلامه بتهديد غير مباشر، والذي سترد عليه بقولها: "لقد هددوا أقاربي في شينيباس بالقتل، إذن قل لهم، إذا كان أحد يجب أن يقتل فهو أنا! وأنا أتحداهم في ذلك!".
بعد اغتيال بريتش، سُرّب التسجيل الصوتي لتلك المكالمة، والقائم الرئيسي على هذا التسريب هو رئيس الحزب بالمنطقة، في حركة وصفتها الصحافة الميكسيكية آنذاك بمحاولة إخلاءٍ لمسؤوليته في الجريمة.
وفي نهاية سنة 2017، سيلقى القبض على مورينو أوشوا، الذي وصفه عمدة ولاية شيواوا خافيير كورال، على أنه العقل المدبر لجريمة اغتيال بريتش. مورينو وهو أحد أبرز رجال عصابة لوس سالازار، كما ستوضح جريدة بروسيسوس، أنه قام بالعملية كهدية عيد ميلاد لزعيم عصابته.
قتل الصحفيين في 2017
"لقد شهد معدل موت الصحفيين أثناء أداء عملهم انخفاضًا ملحوظًا، بتراجع عدد القتلى جراء تغطية نزاعات الشرق الأوسط، وكذا جراء أعمال انتقامية، فيما عدا المكسيك، التي زاد فيها العدد ارتفاعًا". هكذا يخبرنا تقرير اللجنة الدولية لحماية الصحفيين، الصادر في 21 كانون الأول/ديسمبر 2017.
في 2017 بلغ عدد الصحفيين المقتولين حول العالم، 42 صحفيًا، وبحسب التقارير فقد حظيت سوريا والعراق بالنصيب الأكبر من القتلى حيث قتل فيهما 15 صحفيًا.
وحصد كذلك اندلاع الحرب السعودية الإماراتية على اليمن أرواح الصحفيين، حيث مات منهم في تلك السنة صحفيان، إثر اشتداد العمليات في تعز، بعد أن احتميا من النيران المتقاطعة في مبنى استهدفته قذيفة، ليلقيا حتفهما بفعل ذلك.
ويعزو التقرير الاستقرار الملحوظ في عدد الصحفيين ضحايا القتل، إلى تراجع حدة الاقتتال في الشرق الأوسط، وكذا عدم اندلاع نزاعات جديدة بالعالم، يمكن لها أن تحصد أرواح الصحفيين أكثر.
كما تخبرنا وثائق اللجنة الدولية لحماية الصحفيين، أنه منذ سنة 1992 شكل الشرق الأوسط مقبرة للصحفيين، حيث بلغ عدد الصحفيين الذين فقدوا حياتهم في العراق منذ ذلك التاريخ 186 صحفيًا على الأقل، كما بلغ عددهم في سوريا منذ اندلاع الاقتتال سنة 2011، 114 قتيلًا.
وفي ما يخص الاغتيالات الانتقامية ضد الصحفيين، فقد سجل عددهم انخفاضًا طفيفًا، إذ بلغ 17 صحفيًا بحلول 15 كانون الأول/ديسمبر 2017، وتجهل اللجنة أسباب التراجع، وتعزوها كاتبة التقرير إلى عدة عوامل، بما في ذلك انتشار الرقابة الذاتية، والجهود المبذولة لجلب الانتباه إلى قضية مكافحة الإفلات من العقاب، واللجوء إلى أساليب أخرى من قبيل السجن لإسكات الصحفيين الناقدين.
وشكلت هذه الاغتيالات الانتقامية الشكل الأكثر تسببًا في وفاة الصحفيين، حيث مثلت حسب سجلات اللجنة، ثلثي عمليات القتل ضد الصحفيين.
وإجمالًا، خلال سنة التقرير، بلغ موت الصحفيين على يد الجماعات السياسية والدينية 45% من الحالات المرصودة من طرف اللجنة، بينما الموضوع الأخطر على الصحفيين تغطيته، هو الشؤون السياسية، ويتبعه تغطية الحروب.
المكسيك مذبح الصحفيين
وبعيدًا عن مناطق النزاع، تشكل المكسيك أخطر بقعة لممارسة مهنة الصحافة، إذ احتلت، حسب إحصاء أجرته اللجنة الدولية لحماية الصحفيين، المركز الثالث عالميًا في عدد الاغتيالات التي تعرض لها صحفيون على مدار سنة 2017.
وتعد المناطق الشمالية الغربية من البلاد بؤر عمليات القتل هذه، لنشاط عصابات تهريب المخدرات فيها، كما ورد تعليله في كتاب "Organized crime, fear and peace building in Mexico".
فحسب وزارة العدل المكسيكية، فإنه منذ سنة 2007، لقيَ أكثر من 140 صحفيًا مصرعهم في المكسيك إثر عمليات انتقامية، أبطالها كارتلات تهريب المخدرات، ومصيرها بفعل فساد الدولة وسلطة هذه الشبكات الإجرامية، والتسجيل ضد مجهول.
وتبرز الجريمة المنظمة بمثابة لعنة للمكسيك، وينزل وقعها أكثر على مهنيي الصحافة فيها، حيث تثبت الدراسات كون الصحفيين مهددين بالقتل جراء الجريمة المنظمة، أكثر بثلاث مرات من المواطنين العاديين في البلد.
منذ سنة 2007، لقيَ أكثر من 140 صحفي مصرعهم في المكسيك إثر عمليات انتقامية، أبطالها كارتلات تهريب المخدرات
هذا ما جعل الدولة تحتل مراتب متأخرة في مؤشر حرية الصحافة في العالم، الذي كان لها فيه المركز 147 دوليًا. وبهذا الشكل عتبر المكسيك مسلخًا واسعًا للصحافة، يصدق فيه تخيير الكارتيلات بين الصمت أو الرصاص، في حين لم يكن فيه الصمت عادة هواية الصحفيين، إذًا فالموت مصيرهم!
اقرأ/ي أيضًا:
أبرز 4 صحفيين قتلوا خلال الأشهر الأخيرة
حرية الصحافة لعام 2018.. العداء ضد الصحفيين يزداد عالميًا ويتضاعف عربيًا