في الأعوام التي سبقت الغزو الأمريكي للعراق نجح التاجر محمد النعيمي في إخفاء الصحن اللاقط عن سطح منزله، بعد أن أخفاه وسط قفص حمام ليبعده عن أنظار عناصر أمن نظام صدّام حسين ومنظماته الحزبية، التي تملأ المناطق السكنية، خشية العقوبات القاسية والغرامات المالية الباهظة التي كان يفرضها النظام على من يقتني هذه الأجهزة. وطوال تلك الفترة، تجمع أصدقاء النعيمي الموثوقون في بيته كما لو كانوا أعضاء خلية سرية ليشاهدوا القنوات الفضائية عبر الـ"ستلايت"، ويطلعون على أخبار العالم بشكل عام، وأخبار العراق بشكل خاص، بعد أن أصبح المشهد الداخلي ملتبسًا وسط تهديدات باجتياح العراق، ووسط إعلام مرئي عراقي يتمثل بقناتين محليتين رسميتين ومحطة الشباب الأرضية المملوكة لنجل الرئيس الأسبق صدام حسين، إضافة إلى قناة فضائية، تنشغل جميعها بتسويق الرئيس على أنه "القائد الضرورة" وتقدم العراق على أنه جنة بمنأى عن أي تهديد.
نظام صدام حسين منع اقتناء الـ"ستالايت" وحرّم إنشاء قنوات إعلام خاصة
وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان/أبريل 2003، حيث عمت الفوضى جميع مفاصل البلاد، غزت العراق آلاف الشاحنات المحملة بالصحون اللاقطة وأجهزة الاستقبال الفضائي لتصبح أسطح البيوت العراقية غابة من تلك الأجهزة، وقد تسمر العراقيون في الأسابيع الأولى أمام أجهزة التلفاز وهم يقلبون المحطات الخليجية واللبنانية والإقليمية، غير مصدقين أنهم غادروا وإلى الأبد قنوات النظام البائد ولغتها المرئية الخشبية، التي تفتقر إلى المتعة والفائدة في آن معًا.
لكن لم تمضِ فترة زمنية طويلة حتّى بدأت تنتشر الفضائيات العراقية المرتبطة بالأحزاب المهيمنة على السلطة وهي بمجملها أحزاب إسلامية شيعية وسنية، وقنوات أخرى تأسست بأموال تجار ورجال أعمال مرتبطين بتلك الأحزاب عبر استحواذهم على مشاريع الدولة مقابل عمولات كبيرة وتغطية مالية لحملاتها الانتخابية.
اقرأ/ي أيضًا: العراق..مافيا الوظائف الحكومية تطيح بآمال الشباب
وإلى جانب قناة "العراقية"، القناة الفضائية شبه الرسمية التي تأسست وفق قرار الحاكم المدني الأمريكي في العراق بول بريمر، والتي يسيطر على إدارتها حزب "الدعوة"، تُبث في العراق قناة "الفرات" الفضائية التابعة للمجلس الأعلى الإسلامي برئاسة عمار الحكيم، وقناة "الغدير" الفضائية التابعة لميليشيا بدر برئاسة هادي العامري، وقناة "بلادي" الفضائية التابعة لتيار الإصلاح الوطني برئاسة إبراهيم الجعفري، وقناة "آفاق" الفضائية التابعة لحزب الدعوة الإسلامية برئاسة نوري المالكي، إضافة إلى قنوات "النعيم" التابعة لحزب الفضيلة، و"العهد" الناطقة باسم ميليشيا عصائب أهل الحق، و"النجباء" المملوكة من ميليشيا النجباء، التي تقاتل إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد، وقناة "الاتجاه" التابعة لكتائب حزب الله في العراق، وغيرها الكثير على الجانب الشيعي، والتي تقدّر بأكثر من 25 قناة فضائية.
أما على جانب الأحزاب السنيّة فتبدو الفضائيات أقلّ عددًا، إذ تعود قناة "الرافدين" لهيئة علماء المسلمين، وقناة "بغداد" التابعة للحزب الإسلامي، وهناك مجموعة من القنوات الأخرى المملوكة لرجل الأعمال العراقي خميس الخنجر أبرزها "الفلوجة" و"الشاهد"، فضلاً عن قناة "دجلة" التي تملكها حركة "الحل".
ولا يبدو مستغربًا أن تخوض كل هذه القنوات كل يوم حربًا في نشرات الأخبار عبر قلب فحوى الأحداث وتفريغها من محتواها وإلباسها محتوى طائفيًا مؤججًا على العنف ومشجعًا العراقيين على الانزواء أكثر داخل هوياتهم الطائفية والفئوية، فضلًا عن استضافة المتناحرين من السياسيين لتتحول الحوارات بينهم إلى جلسات صراخ وتبادل اتهامات بين الطوائف عن سبب الخراب الذي وصل إليه العراق.
تنقسم الفضائيات العراقية بين طرفين شيعي وسني وتبث على الدوام خطابًا مذهبيًا
وإذا ما كانت القنوات ذات الصبغة السنية منفلتة ولا تخضع إلا إلى أمزجة أصحابها ومموليها، فإن القنوات الشيعية ترتبط جميعها باتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية، الذي تهيمن على خطاب البث فيها إيران، إذ توفد، بحسب إعلاميين تحدثوا لـ"ألترا صوت" برجال دين من أجل مراقبة البث، ومراجعة خطط البرامج الدورية التي تضعها هذه الفضائيات.
وينتشر إلى جانب القنوات ذات المحتوى والبرامج السياسية، القنوات الإسلامية الشيعية "البحتة" التي تفرد ساعات البثّ لعرض الخطب الدينية لرجال دين يدلون بدلوهم بكلّ شاردة وواردة في السياسة والمجتمع والاقتصاد والتعليم والعلم، وبالطبع لا يفوّت هؤلاء جهدًا في الردّ على قنوات أخرى، تبثّ من بعض عواصم دول الخليج وبريطانيا، ولتبدأ مرّة أخرى حفلات من التفرقة الطائفية يخوضها طرفا الصراع.
وفي الغالب، تحصل غالبيّة الفضائيات ذات النبرة الشيعية على تمويل شهري من إيران، وهو ما يجعل خطابها أكثر قربًا من خطاب القنوات الإيرانية مثل قناة "العالم" الناطقة بالعربية والتي تعد "مثالًا ناجحًا" بالنسبة للقنوات العراقية المقربة من التحالف الوطني الحاكم والتي تبث من العاصمة العراقية بغداد.
اقرأ/ي أيضًا: موازنة العراق لعام 2017.."مكانك راوح"
وفي العراق أيضًا، هناك قنوات علمانية، إلا أن خطابها تديره مراكز القرار في الإدارة الأمريكية مثل قناة "الحرة عراق"، وهناك أيضًا قناة "السومرية" المملوكة لرجل أعمال لبناني تربطه مصالح وعقود بالحكومة العراقيّة، إلا أن خطابها يتسم بالكثير من الاعتدال، وقناة "الشرقية" لسعد البزاز، الإعلامي العراقي الذي كان يعمل في إعلام سلطة صدام حسين إلا أنه انشق عنه في تسعينيات القرن الماضي.
وبعد نحو 14 عامًا على تعرّف محمد النعيمي على القنوات الفضائية التي يبثهّا قمر نايل سات، قال إنه فقد ثقته بأغلب القنوات العراقيّة والعربيّة، وأن الإعلام لم يعد بالنسبة له مصدرًا موثوقًا مثلما كان إبان تعرّفه على "الستالايت" والصحون اللاقطة، وأجهزة البث الحديثة التي كان يُسارع إلى شرائها. ويتقاسم الكثير من العراقيين وجهة نظر النعيمي، وهو ما أخذ يدفعهم إلى البحث عن الأخبار على وسائل التواصل الاجتماعي، وبشكل خاص موقع "فيسبوك".
وفي الأوساط الإعلامية العراقية، يبدو حجم اليأس واضحًا من حجم الانحدار الذي وصل إليه الإعلام، وهناك الكثير من الإعلاميين الذين يعلنون صراحة أن مهنتهم تحوّلت إلى فضاء يلعب بمحتواه الساسة وأصحاب المال، ويصرّح الكثير منهم أن بقاءه في هذه الفضائية أو تلك ناتج عن حاجته لتوفير "لقمة العيش".
اقرأ/ي أيضًا: