يبدو أن مفهوم الحرب السيبرانية آخذ في النمو والاتساع، كما يظهر أنه سيكون في المستقبل القريب مظهرًا جديدًا من مظاهر السيطرة وأداة للحرب وإثبات الوجود بين الخصوم السياسيين. ولكن كيف؟ وهل اشتغلت حرب سيبرانية في العالم بالفعل؟ أم أن هناك أحداثاً تدل على أننا بصدد انتظارها، وأن مظاهرها تلوح لنا من بعيد، وأن هناك حوداث خطيرة وقعت بالفعل هنا وهناك تدل على أننا نعيش بواكيرها؟
أجبر الفضاء السيبراني الدول على الاعتراف به حلبة جديدة للصراع، شديدة الخطورة على المؤسسات والبنى التحتية للبلدان
وهل يمكن أن تمس هذه الحرب المقاتلين في ساحة المعركة في أرض الواقع، فيكون لها الكلمة الأخيرة مثلًا في الانتصار أو الهزيمة؟ وهل يمكن أن تمس هذه الحرب المدنيين في أبسط أشكال وأنماط معيشتهم؟ وكيف يجب أن يواجهها العالم؟
اقرأ/ي أيضًا: الفضاء السيبراني.. امتداد حرب باردة بين واشنطن وموسكو
نشرت مجلة فورين أفيرز، مقالًا مطولًا عن ملامح العهد السيبراني الجديد وصراعاته، وما يتعلق بها من حيوات الناس مستقبلًا، وحتى في وقتنا الحاضر.
الفضاء السيبراني.. حلبة الصراع الجديدة
أجبر الفضاء السيبراني الدول على الاعتراف به كحلبة جديدة للصراع. ولعدة سنوات سابقة، كانت هناك تحذيرات من "بيرل هاربور سيبراني"، أو بمعنى آخر هجوم رقمي هائل يمكن أن يشل البنية التحتية الحيوية للبلاد بدون إطلاق رصاصة واحدة.
وقد وجهت اللجان الرئاسية وتقارير فرق العمل العسكرية والتحقيقات في الكونغرس، الانتباه إلى مثل هذا الخطر لعقود من الزمن. ففي عام 1984، حذرت إدارة رونالد ريغان من "التحديات الأمنية الكبيرة" في عصر المعلومات المقبل. وفي هذا العام فقط، قال دان كوتس، مدير الاستخبارات الوطنية، عن هذه التهديدات، إن "إشارات الخطر الحمراء تومض".
على أي حال لم يكن الفضاء السيبراني حلبة صراع في الأساس، وإنما هو عمود فقري للتجارة والاتصالات العالمية. وهو على الرغم من ذلك، ليس من المشاعات كالماء والهواء، كما تعبر "فورين أفيرز"، لكنها أصبحت تتصل اتصالًا وثيقًا بالبنية التحتية المادية التي تشكل شبكة الإنترنت والبيانات التي تعبرها أساسًا لها.
قامت الدول والشركات بتوسعة بناء شبكة الإنترنت، وأصبحوا مسؤولين عن الحفاظ عليها وصيانتها، ومن هنا نشأ شكل من أشكال السيطرة على الفضاء السيبراني. ورغم أن الشبكة العنكبوتية متحررة، إلا أن هناك جهود حالية من قبل الحكومات للتحكم في خوادم الشبكة، الأمر الذي يؤثر على حيادية الإنترنت وقد يقضي عليها تمامًا.
ورغم التهديدات الحقيقية بالحرب السيبرانية، ورغم كل التحذيرات الشديدة من خطورة حدوث "سايبر بيرل هاربور"، إلا أن الولايات المتحدة مثلًا، قد أظهرت قليلًا من الاهتمام بمثل هذه التحذيرات، ولعل ما حدث في الانتخابات الأمريكية التي تُتهم روسيا بالتدخل فيها عن طريق حملات ممنهجة عبر الفضاء السيبراني، نموذج لما قد يؤدي إليه تجاهل التحذيرات بشأن خطورة ما قد يحدث سيبرانيًا.
هذا وتستخدم الدول المتصارعة، أدوات الحرب السيبرانية لتقويض أسس الإنترنت. وأول ما يتم اختراقه ويتلاعبون فيه هو "الثقة"، فيخترقون البنوك ويتدخلون في الانتخابات ويسرقون الملكية الفكرية ويجرون الشركات الخاصة نحو الهاوية. والنتيجة أن الساحة التي يعتمد عليها العالم للتبادل الاقتصادي والمعلوماتي بالثقة الكافية، تتحول إلى ساحة معركة نشطة.
حرب دون قتال.. وخسائر بالملايين!
بات مفهومًا أن العمليات السيبرانية تمثل نمطًا جديدًا من التنافسية في عالم تتركز فيه طاقة أقل في يد قوة عظمى واحدة. فهي قابلة للتخريب وقابلة للتطوير، ومناسبة للحرب، والسلام، والكثير بينهما. وتقوم الدول بـ"تسليح" الفضاء السيبراني، وكما أظهرت محاولات روسيا للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، أصبح من الممكن الآن القيام بعمليات على شبكة الإنترنت دعمًا لحملة متطورة من التأثير الخفي.
تستخدم الدول المتصارعة أدوات الحرب السيبرانية لتقويض أسس الإنترنت، وأول ما يتم اختراقه والتلاعب به هو "الثقة"
حيث اخترقت موسكو حسابات البريد الإلكتروني التي تنتمي إلى اللجنة الوطنية الديمقراطية، وواحدة من كبار مساعدي هيلاري كلينتون، ليس فقط لجمع المعلومات الاستخبارية، ولكن أيضا للعثور على معلومات محرجة للدعاية. وقد شارك المخترقون رسائل البريد الإلكتروني المسروقة مع ويكيليكس، والتي أفرجت عنها للجمهور، ما أدى إلى التغطية الإعلامية السلبية للمرشحة الديمقراطية في الفترة التي سبقت يوم الاقتراع.
اقرأ/ي أيضًا: حصار قطر يكشف الخطورة الحقيقية للهجمات الإلكترونية.. حرب بديلة أقل تكلفة
وفي الأشهر التي سبقت الانتخابات، بدأت الشركات الروسية المرتبطة بالكرملين في شراء الإعلانات على فيسبوك، وأنشأت جيشًا من حسابات تويتر تدعم دونالد ترامب، المرشح الجمهوري. كما أعطت شبكة الإنترنت أجهزة الأمن الروسية القدرة غير المسبوقة للوصول إلى ملايين الناخبين الأمريكيين بالدعاية.
و قد استطاعت بلدان أخرى الاستفادة من الفضاء الإلكتروني في شن هجمات على غيرها، عندما لم تكن إستراتيجيات الهجوم التقليدية متاحة أو غير حكيمة. ولعل أفضل مثال على هذا النوع من العمليات ما حدث في عام 2014 ، عندما اخترقت كوريا الشمالية شبكة "Sony Pictures"، ودمرت خوادمها، وسرّبت معلومات سرية ردًا على إطلاق فيلم "The Interview"، وهي كوميديا تصور اغتيال زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون.
بعدها، ولعدة أشهر، كان على شركة "Sony Pictures" أن تعمل بالقلم والورق، أثناء إعادة بناء نظام تكنولوجيا معلومات فعال خاص بها. وفي عام 2016، قامت كوريا الشمالية من خلال مجموعة من القراصنة سحب عشرات الملايين من الدولارات من بنك بنغلاديش المركزي، ردًا على الحملة الدولية لعزل كوريا الشمالية عن الاقتصاد العالمي!
و لقد عانت الولايات المتحدة الأمريكية من أحد مظاهر السرقات التي تتم من خلال الفضاء السيبراني، فقد أفاد تقرير صادر عن لجنة سرقة الملكية الفكرية الأمريكية، أن الخسائر الأمريكية من سرقة الملكية الفكرية، تتراوح بين 225 مليار دولار إلى 600 مليار دولار سنويًا، ويمكن تحميل الكثير من هذه السرقات على الصين.
كل هذه الأحداث وقعت فيما يمكن تسميته بمنطقة صراع رمادية، دون التواجه فعليًا على أرض الواقع. لكن الدول تعتمد بشكل متزايد على قدرات الإنترنت في العمليات العسكرية التقليدية أيضًا. على سبيل المثال، واثناء قصف الناتو ليوغسلافيا في 1999، اخترقت وحدة البنتاغون أنظمة الدفاع الجوي اليوغسلافية، لجعلها تعتقد أن الطائرات الأمريكية قادمة من اتجاه مختلف عن الحقيقي. كما اعترف مسؤولون أمريكيون بأن البنتاغون استخدم الهجمات الإلكترونية في حربه ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وبطبيعة الحال، الأمر ليس حكرًا في الاستخدام على الولايات المتحدة، فخلال غزوها لجورجيا في 2008، استخدمت روسيا هجمات لقطع خدمة الإنترنت، لإسكات محطات التلفزيون الجورجية قبل توغل الدبابات الروسية. ومن المرجح أن روسيا كانت أيضًا وراء اختراق شبكة الكهرباء الأوكرانية في 2015.
تأثير الإنترنت على الحروب القتالية
من المبكر الجزم بأن الأدوات السيبرانية لها يد واضحة في زيادة قدرات الجيوش في أرض المعركة. لكن من المؤكد أن الاعتماد الكبير على الإنترنت والفضاء السيبراني في عمليات تنظيم الجيوش، قد يكون لها أثر سلبي، وقد تمثل الذراع الملوية لهذه الجيوش.
يمكن التظر إلى الجيش الأمريكي على سبيل المثال، وكونه يعتمد بدرجة كبيرة على الإنترنت في القيادة والهجوم والسيطرة، وفي تنظيم الإمدادات وشبكة الاتصالات، فإن أي اختراق محتمل من الممكن أن يقوض قدراته الهجومية أو الدفاعية أو قدراته على الإمداد من الخارج. وقد كشف وليام لين، الذي كان نائبًا لوزير الدفاع الأمريكي، أن البنتاغون وقع ضحية هجوم قرصنة قامت به جهات أجنبية عبر برمجيات خبيثة، تمكن المختصون في البنتاغون من السيطرة عليها في نهاية المطاف.
يمثل الخطر الحقيقي والقريب للهجمات السيبرانية، الهجوم بالبرمجيات الخبيثة على البنى التحتية للدول، خاصة الدول المتقدمة التي تربط كل خدماتها بالإنترنت
غير أنّ الخطر الحقيقي والقريب الذي قد تمثله الهجمات السيبرانية، هي الهجوم على البنى التحتية للدول. على سبيل المثال، تخيل لو أن هجومًا إلكترونيًا استهدف شبكة الكهرباء في الولايات المتحدة على نطاق واسع، ليس فقط لقطع الكهرباء عن المدنيين، وإنما أيضًا لقطعها على المؤسسات العسكرية والأمنية. بالطبع يمثل ذلك تهديدًا حقيقيًا على عدة مستويات.
أما ضمن الحالة العربية المعاصرة، ومن أكثر المحطات التي ستشكل طويًلًا مثالًا يتم التوقف عنده، فهي الحروب الإلكترونية الهائلة التي توظفها السعودية منذ بروز محمد بن سلمان، كم جهود الإمارات الشاسعة في هذا الإطار، علمًا أن الإمارات كثفت حضور/عبثها السيبراني منذ 2011 نظرًا لتورطها في إجهاظ عدة محاولات ثورية ومشاريع تحول ديمقراطي تبينتها المنطقة العربية على إثر ثورات 2011.
لكن ما يتم العودة والتركيز عليه، وهو الواقع خلال السنة الأخيرة، جهود السعودية والإمارات معًا عبر الحسابات الوهمية في تويتر وغيره من المنصات الاجتماعية، إضافة لعمليات الاختراق وتلفيق الحقائق ومحاولة الابتزاز بالأكاذيب. ما يلخص كل هذه الحروب السعودية الإماراتية عبر فضاء السايبر يتمثل في أزمة حصار قطر، التي خلقها هذا الحلف انطلاقًا من اختراق وكالة الأنباء القطرية الرسمية "قنا" وما تلاه من حرب إلكترونية مرفقة بحرب شراء ذمم في عالم الواقع أيضًا، لكن دومًا بفضائح متكررة.
اقرأ/ي أيضًا:
لمواجهة حروب الإنترنت القادمة.. جيل جديد من "القراصنة الخلوقين" يتدرب
المقاومة الفلسطينية في عصر "الجهاد الرقمي".. إيريك سكاريه راصدًا البدايات